ممارسة الأنشطة الثقافية والفنون التعبيرية تظهر كمرحلة متأخرة من تاريخ الحضارات البشرية تلي الاستقرار وتلبية الحاجات الأولية، لذا كثير ما تحاصرها تهم اللهو والنخبوية كونها لا تصنع التاريخ بقدر ما تعكسه وتعبّر عنه، رغم انها بحد ذاتها مؤشر هام على الحضارة والتمدن.
وهكذا ظلت الفنون والآداب جزءاً من ممارسة روحية جليلة تتوسلها الشعوب للرقي بنوازع النفس من قاعها المتوحش المظلم، ابتدأ من فلاسفة الإغريق الذين كان المسرح يقوم بمهمة تطهيرية لنوازع النفس (كاتارسيس) من خلال تماهي المشاهدين مع الأحداث كما لدى أرسطو.
وصولاً إلى جمعية العلاج بالفن الأميركية التي تجعل من صناعة وتلقي الفنون علاجاً للذين يعانون المرض والصدمة أو التحديات في المعيشة أو أولئك الذين يسعون لتنمية الشخصية.
ولم تنل الفنون والآداب صيغتها القانونية، التي تجعلها جزءاً هاماً من مكونات المجتمعات إلا في مراحل متأخرة من عمر الشعوب..
الإعلان العامي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، وتحديداً المادة 27 إلى حق كل إنسان بالاستمتاع بالفنون والفوائد التي تنجم عنه.
على المستوى المحلي المادة 5/29 من النظام الأساسي للحكم بأن الدولة ترعى الفنون والآداب، وتشجيع البحث العلمي وصيانة التراث.
وأعتقد أن الإبداع الثقافي المحلي يقف الآن عند مرحلة مفصلية، لحضوره بشكل بارز وإيجابي ومتكرر ضمن مدونة رؤية 2030.
ولعلنا من هنا نسعى إلى ترميم أمر تأخرنا فيه لسنوات طوال وتعرض لكثير من الإهمال والحصار.
فالوطن الذي يكابد تيارات العنف والتطرف واستدراج الناشئة إلى محاضن التوحش، بحاجة إلى جرعات مكثفة من الجمال والإبداع مع الانفتاح على تجليات الجمال العالمي أي الثقافة بشكلها السامي لا الرخيص المبتذل.
فالفنون والآداب هي ترياق يزيد وعي الشباب بذاتهم ويمنحهم القدرة على تأسيس علاقة إيجابية مع محيطهم، ويصقل النزعات البدائية ويهذبها، مع تعزيز القدرات المعرفية على إنتاج الفنون والاستغراق الدؤوب في العمليات الإبداعية.
لذا لابد أن يكون هناك مشروع وطني كبير لتأثيث الفضاء المدني بالفنون، هذا المشروع يشترك فيه عدد من الحواضن أبرزها:
التعليم
الاهتمام بالمسرح المدرسي ودمج بروتكولاته ضمن مفردات المنهج.
إدخال حصص الموسيقى على المدارس منذ الصفوف الأولية.
أيضا تدريب وصقل مهارة التذوق لدى الطلبة من سنوات مبكرة، وتقديمهم للفنون والآداب كصيغة تعبيرية يتمكن الطفل عبرها من تحقيق التوازن النفسي.
الاهتمام بالفنون كمعرفة ومهارة وربطها بماضيها العريق من ناحية وتراث عالمي من ناحية أخرى.
تأسيس مجلس أعلى للثقافة والفنون، يكون دوره تخصيب بيئة إيجابية وفاعلة للممارسة الإبداعية المحلية. ورسم الخطط والاستراتيجيات الوطنية المعنية بهذا المجال.
إنشاء أكاديمية الفنون
رغم ان الكثير من جامعاتنا المحلية لامس نطاق العالمية إلا انه ظلت الفنون عبارة عن أقسام متوارية بالجامعات، دون أن يرافق هذا محاضن أكاديمية متخصصة.
تأسيس مراكز ثقافية
تستطيع أن تحتضن التجليات الثقافية في المدينة بصيغتها السامية ذات الرسالة الجمالية والذوق الرفيع، وتعكس طاقات الجمال والإبداع المحلي، أي أن تكون هي بحد ذاتها جزءاً من احتفائنا بإرثنا جمال تراثنا المعماري، وكما هو المركز الثقافي المتميز الذي يتم العمل عليه الآن في الدرعية، نحلم بأن تظهر تجلياته على امتداد مساحة المملكة، وبحسب تنوعها الحضاري.
وأخيراً وأهم من كل هذا أن يكون هناك ساحات سقوفها الغيم وحدودها الأفق تتيح لأجنحة الإبداع التحليق والتجلي.
< السابق | التالي > |
---|