التقرير الأخير ﻟ"منظمة الشفافية الدولية" حمل عنوان "المحفّز الكبير" للتطرّف والإرهاب، وهو الفساد الذي تستغلته داعش لتجنيد أتباع لها بزعم أنها تقدّم بديلاً بخلافة رشيدة. وهذا قول يَذهب لأعمق من زعم أن ما مكّن من تمدّد داعش هو تقنيات الاتصال الحديثة..
فالأخيرة وسيلة اتصال متاحة للجميع، ولكن ليحدث "التواصل" تلزم مخاطبة ما يهم الآخر.
وإذا كانت داعش قد خاطبت غرائز متوحشة أيضاً، فالفساد توحّش بحد ذاته يُوطّنُ الضحايا عليه بدرجة أن يتقمّصوا دور جلّاديهم. واستحضار وسائل "قروسطية" (قطع الأعناق والحرق والصلب) لتحقيق ما يظن أنه عدالة كانت سائدة قبل قرون، تبدو لهؤلاء مناسبة! ولهذا فالتقرير لا يُخاطب الأنظمة الفاسدة، بل يُوجّه اللوم للحكومات الغربية، ومنها بريطانيا وأمريكا، لغضها الطرف عن الفساد في علاقاتها مع أنظمة فاسدة يُزعم أنها لضرورات أمنية. وترد كاثرين ديكسون، المسؤولة عن قضايا الأمن والدفاع في منظمة الشفافية العالمية والمشاركة في بلورة التقرير، على هذا الزعم بأن "الفساد تهديد أمني حقيقي، وأكثر من مجرد وسيلة تتبعها الصفوة لملء جيوبها. والحكومات الفاسدة، هي في النهاية - بتأجيجها غضب الناس وتقويض المؤسسات- مهندسة أزماتها الأمنية".
وهذا يفسّر ليس فقط الحال الأمني الذي آلت إليه أنظمة فاسدة، بل أيضاً الحال الأمني الذي تختلقه هي لتبرّر تأجيل التصدّي للفساد، حيث تعلن حالات طوارئ دونما وجود طارئ سوى المُطالبة بمحاسبة الفاسدين. وحيث تسود المَحاكم والمُحاكمات العسكرية لمدنيين، في حين أن ما يَلزم هو فقط فك السلاسل التي تكبِّل عجلة القضاء النظامي (المدني) وتفعيل قوانين العقوبات الموحّدة والمنسوخة تقريباً عن بعضها في العالم العربي وفي العالم كله لحد بعيد. فما هو مجرّم باعتباره "فساداً"، أي انتفاعاً غير مشروع من مال أو منصب عام، أو انتفاع يجري على حساب حقوق ومصالح الشعب.. تعريف هذا الفساد موحّد عالمياً، وبالتالي كانت مواد قوانين العقوبات في العالم العربي والثالث بعامة تُستَنسخ من بقية العالم المتحضّر، كما استنسخت من قبلها الدساتير التي نصّت على حقوق المواطنين ووسائل إحقاقها بما يُلزم المسؤولين ويضعهم في دائرة المُراقبة والمُحاسبة، وليس بجعل المواطنين في خدمة المسؤولين. والعيب التشريعي، حيثما وجد، جاء لاحقاً بزعم ضرورات "أمنية".
لافت كمثال نموذجي، إصدار السادات ﻟ"قانون حماية القيم من العيب" القمعي الذي هدف لتصفية المعارضة، والذي استحق اللقب الذي اشتهر به: "قانون العيب". وكل نظام يعرِّف العيب بما يخدم اختلاق "تابوهات" تتعلق به هو، كي يمنع نقد سياساته. وسياسية السادات التي أراد منع انتقادها تضمّنت ثلاثية الاستبداد والفساد وفك مقاطعة العالم العربي لإسرائيل وإسقاطه صفة العداء عنها مجاناً وبلا أي مبرّر. ورغم توظيفه للدين في نص قانون العيب الذي يقول "كل من ارتكب ما ينطوي على إنكار الشرائع السماوية أو ما يتنافى مع أحكامها، أو تحريض النشء والشباب على الانحراف عن طريق الدعوة إلى التحلل من القيم الدينية أو عدم الولاء للوطن، يعاقب.."، فإن هذا لم يؤد لتصديق وصفه لنفسه ﺑ"الرئيس المؤمن" ولا إسباغ الشرعية الدينية على حكمه، بل فهم بكونه تجريماً لمن يطعن بالأساطير التي قامت عليها إسرائيل.. فجاءت المفارقة بإسقاطه برصاص متطرّف ديني. وهي النهاية المتوقعة عند زعم الشرعية الدينية التي لا سند لها في الإسلام، لمنع المساءلة، والذي هو زعم متبادل متجدّد يستسهل بقدر جهل صاحبه.
وهذا المسار هو ما أودى للقاعدة التي انقسمت وتشظت بانقلاب مبايعيها عليها لحظة تستفرد مجموعة منهم بمنطقة ما فتنتشي بالسلطة التي تلبس لبوس القدسية.. ما أودى لداعش، ثم للفصائل المنشقة عن داعش والمتنافسة المقتتلة على ما يُقال أنه أرض الخلافة الرشيدة فيما هم في قلب جحيم مستعر! وما دام هنالك مستبد فاسد يزعم أو يتوهم لنفسه شرعية دينية، فهنالك فرصة لتشكل معارضة مماثلة له في التوصيف تنازعه على مملكة السماء في الأرض. وفي كل نسخ العسف والفساد المكرّرة، بدءً بإعدام سقراط معلّم "الحكمة" للشباب بالسؤال والمساءلة والمجادلة، يتجلى خوف عميق من "الشباب"!.
ولكن المخرج الوحيد من المتاهة هو بالشباب، بوعد حياة تستحق أن تعاش، وبدونه الشباب سيبحثون عن الموت، قتلة وانتحاريين ومقتولين، لا فرق يُستشعر.. وفي المقابل حيث يوجد شباب مُقبل على الحياة، توجد دولة قابلة للحياة!.
< السابق | التالي > |
---|