أحسن صنعاً وزير خارجية دولة الإمارات سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان عندما تبنى فكرة طرحها الأمين السابق لجامعة الدول العربية تقضي بأهمية عقد خلوة لوزراء الخارجية العرب من دون جدول أعمال معد سلفاً وبعيداً عن عيون مندوبي الإعلام وآذانهم. من مميزات الخلوات أنها، على عكس الاجتماعات الرسمية، تنعقد في جو يخلو من قيود المراسم البروتوكولية وأساليب البيروقراطية وتناقش قضايا قد لا تحتاج إلى قرار بقدر ما تحتاج إلى فهم متعمق لها من جانب المشاركين في تلك الخلوات. كذلك تتيح الخلوات الفرصة للتخلص من تأثيرات المستشارين والمساعدين. وفي حالة الجامعة العربية على وجه الخصوص، يمكن للوزراء بفضل هذه الخلوات إبعاد المندوبين الدائمين، فهؤلاء، كما هو معتاد، يركزون دائما على القضايا المالية والإدارية وكثيراً ما تسببوا في إهدار الوقت القصير الذي يخصصه الوزراء لاجتماعاتهم الدورية.
أتصور أن وزراء خارجية سوف يشاركون في هذه الخلوات، في حال انتظم عقدها، من باب المجاملة أو تأكيد الالتزام الشكلي. بعض هؤلاء لم يتعود في بلده على الدخول في مناقشات سياسية حرة. بعض آخر لن يرتاح لمناقشة دقائق موقف بلاده من قضايا بعينها ربما لانشغاله فكرياً أو مهنياً بأشياء أخرى أو ربما في الحالات التي تكون فيها وزارة الخارجية الحلقة الأضعف أو الأقل تأثيراً في عملية صنع السياسة الخارجية.
أستطيع أن أتخيل حجم الفائدة التي يمكن أن تعود على وزراء الخارجية العرب من وراء خلوات منتظمة. نعرف أن كل وزير نشيط من هؤلاء الوزراء يحتفظ بصداقات ويقيم اتصالات بأقرانه في دوائر سياسية أجنبية تختلف عما يحتفظ به أو يقيمه وزراء عرب آخرون. وزير مغاربي مثلا استمع إلى تحليل أو تقدير موقف في دولة أوروبية فرانكفونية فينقله إلى زملائه، وزير آخر يرتبط بعلاقات شخصية أو رسمية مع شخصيات شهيرة تتولى مناصب مهمة في شركات عظمى، ولهذه الشركات كما نعلم نفوذ كبير في دوائر التشريع وصنع القرار في الدول الكبرى.
سرحت طويلا متخيلاً نفسي داخل كوخ مؤثث بكافة وسائل الراحة البسيطة، مقاعد أو أرائك لا تزعج ولا تشجع على النعاس وموسيقى هادئة ومشروبات ومأكولات جاهزة. لا نادل أو نادلة ولا حارس أمن ولا خبير فني للتصوير أو التسجيل. القضايا تطرح بشكل عفوي إذ إن الاجتماع من دون أجندة وبغير رئيس. مفهوم ضمنياً أن الهواتف الذكية لم تدخل إلى الكوخ.
حضرت قبل أيام مؤتمراً بالقاهرة مخصصاً لمناقشة العلاقات الأمريكية - العربية. جرى عرض الأوراق وأغلبها متميز ودار حولها نقاش أغلبه كذلك عالي المستوى. استوقفتني بشكل خاص ملاحظة وردت في إحدى المداخلات كشفت عن وجه من وجوه الحقيقة التي زعمت منذ زمن وما زلت أزعم أنه من الصعب إنكارها ومن الخطورة بمكان إهمالها. قال المتداخل إنه يشعر بعد الاستماع إلى ما دار من مناقشات كما لو أن المؤتمر مخصص لمناقشة العلاقات الأمريكية - الإيرانية وليس لمناقشة العلاقات الأمريكية - العربية.
توقعت أن يذهب أعضاء الخلوة الأولى إلى بعيد، وأتوقع أن يذهبوا في الخلوة الثانية إلى أبعد جدا مما ذهبوا إليه في الخلوة الأولى. توقعت أن يطرحوا غير الممكن من بدائل السياسة والقرار وصولا إلى الممكن. كثير بل كثير جدا من معالم الوضع العربي الراهن كنا قبل سنوات نصنفه بين الاحتمالات المستحيلة أو غير الممكنة. بالتالي وحيث أن معظم مجتمعاتنا تتصرف كما لو كانت تعيش فوق صفيح ساخن، فإنه يتعين على وزراء الخارجية العرب أن يبدأوا بالصعب جدا من بين احتمالات المستقبل والاستعداد له. ابحثوا ودققوا في أي علاقة قائمة أو متوقع قيامها بين دولة في الاتحاد الأوروبي أو الصين أو روسيا أو دولة في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية من جهة والعالم العربي من جهة أخرى ستجدون العنصر الإيراني بارزاً وربما له الأولوية عند الأطراف غير العربية.
في مثل هذه الخلوات الهادئة بطبيعتها والدبلوماسية في جوهرها وأدواتها يتحلى المشاركون بشجاعة طرح القضايا الحرجة أو الحساسة. هنا في هذا الكوخ حيث تنعقد الخلوة لن توجد شعوب ولا من يمثلها أو يشي لها بما دار فيها. هنا سوف يناقشون القضية الفلسطينية، يعترفون لبعضهم البعض بحقيقة العروض المطروحة عليهم. الرئيس ريغان طرح على العرب في أول عهده طرحا وطلب منهم تبنيه وتبنوه سرا ثم علنا. تكرر الطرح وتكرر التبني السري ثم العلني. الآن ليس سرا أن في دوائر الخارجية الأمريكية والبنتاغون يوجد من يفكر في استبعاد العرب من أي طرح قادم واستبدالهم بإيران. العرب الذين لم يصدر عنهم إجراء يتصدى للأمر الرئاسي الأمريكي في شأن الزائرين والمهاجرين المسلمين لن يتخذوا بالتأكيد إجراء إن صدر أمر رئاسي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس. هكذا يستمر انحدار المكانة الدولية للعرب كجماعة. صوت العرب خافت أو لعل أغلبه صار همسا يناجي فقط أو يتوسل أو يعتذر. إذا كان الوزراء العرب محرجين من مناقشة قضية فلسطين في العلن فواجبهم يفرض عليهم أن يخلعوا أقنعة الحرج وينتهزوا تجربة الخلوات ليتشاوروا معا حول اتخاذ مواقف متقاربة ويا حبذا موقفا موحدا يواجهون به قرار القدس، أو قرار تصفية القضية أو السياسات الروسية تجاه المنطقة أو الارتباك العظيم الذي أصاب جميع الدبلوماسيات العربية نتيجة تحولات السياسة الخارجية التركية' أعقبه ارتباك عظيم آخر بسبب الحملة الانتخابية وسيل الأوامر الرئاسية التي أصدرها الرئيس الجديد للولايات المتحدة.
تمنيت لو أن واحداً من السادة الوزراء المشاركين في خلوتهم الدورية تشجع فصارح زملاءه بأنه لم يعد يجد اهتماما كبيرا في اجتماعات المنظمات الدولية والإقليمية بالصوت العربي أو بالمجموعة العربية.
أسأل الوزراء ويسألهم معي الكثيرون، إلى متى يمكن أن تظل هويتنا عربية وهم لا يصدون عنا زحف الطائفيات والتعصب ولا يخلقون الظروف التي تشجع شبابنا على عدم الهجرة إلى الخارج ولا يبذلون جهدا لمنع انفراط النظام العربي. أسأل أليس إهمالهم الجامعة العربية ومنظماتها المتخصصة الدليل الأكبر لدى شعوبنا ولدى حكومات دول الجوار غير العربية ولدى الدول الكبرى على أن أكثر النخب العربية الحاكمة لم تعد راغبة في حماية الهوية العربية أو لعلها غير قادرة بسبب الانقلاب الهائل في توازنات القوى الراهنة؟
< السابق | التالي > |
---|