منذ تأسيس جامعة الدول العربية في أواسط الأربعينات من القرن الماضي تتنازع الأوساط السياسية والفكرية العربية نظرتان إلى هذه الجامعة، النظرة الأولى إن هذه الجامعة بالأصل هي مشروع بريطاني
هدفه الالتفاف على الوحدة العربية التي كانت فكرة صاعدة بين أبناء الأمة العربية مع حصول عدد من دولها على الاستقلال من الاستعمار البريطاني والفرنسي والاسباني، ويستند أصحاب هذه النظرة إلى أن اجتماع الإسكندرية الذي تم تحت اسم "مشاورات الوحدة العربية" قد أفضى إلى منظومة هزيلة عاجزة عن أداء أي دور حقيقي في حياة الأمة.
أما النظرة الثانية فهي ترى إن هذه الجامعة على عجزها وهزال دورها تشكل حداً أدنى من الرابطة القومية التي تشد أقطار الأمة إلى بعضها البعض، وإنها في نهاية الأمر انعكاس للواقع الرسمي العربي، فكلما تحسّن هذا الواقع تحسن أداء الجامعة، وكلما تراجع هذا الواقع تراجع دور هذه الجامعة.
وإذا كان أصحاب النظرة الأولى يعززون نظرتهم مستشهدين بالعديد من الإخفاقات التي عرفها تاريخ الجامعة، بل بالعديد من المواقف المتواطئة والخطيرة والمنافية حتى لميثاق الجامعة العربية التي اتخذها المهيمنون على الواقع الرسمي العربي، وجعلوا من جامعة الدول العربية غطاء لها، وهنا يعدد هؤلاء عجز الجامعة تجاه الاحتلال الصهيوني وممارساته العدوانية في فلسطين ودول الطوق، كما يذكرون بتواطؤ بعض أركان الجامعة مع الإدارة الأمريكية على شن حربين على العراق (1991 و2003) ثم تكريس شرعية الاحتلال الأمريكي وأدواته في العراق بعد احتلاله عام 2003.
كما يرى هؤلاء بأن هذه الجامعة، بأوامر من الجهات المهيمنة على قرارها، لم تتخل عن العديد من الاتفاقيات التي أقرتها، والقرارات التي اتخذتها فقط، لا سيما معاهدة الدفاع العربي المشترك التي تنص على "أن أي اعتداء على أي دولة عربية هو اعتداء على الدول العربية جميعا"، بل أنها مارست عكس هذه الاتفاقيات نفسها حين استدعت "الناتو" للتدخل في ليبيا عام 2011، وحين حاولت على مدى سنتين أن تستدعي تدخلا استعماريا مماثلاً في سوريا لولا الفيتو الروسي الصيني المزدوج الذي أحبط هذه المحاولات.
أصحاب النظرية الأقل تشاؤماً تجاه الجامعة كانوا يشددون أن المشكلة لا تكمن في الجامعة وميثاقها ونظامها الأساسي، بقدر ما تكمن في الواقع الرسمي العربي الواقع تحت تأثير ثلاثية التبعية والفساد والاستبداد، ويعزز هؤلاء وجهة نظرهم أن هذه الجامعة شهدت عصرها الذهبي في النصف الأول من ستينات القرن الماضي حين كانت مصر بقيادة جمال عبد الناصر تقود الأمة العربية كلها، فصدرت في تلك الفترة مجموعة قرارات واتفاقيات حول العمل العربي المشترك أبرزها دون شك اتفاقية السوق العربية المشتركة واتفاقية الدفاع العربي المشترك ومئات القرارات التي لو جرى تطبيقها لكانت منظومة الدول العربية تضاهي أقوى المنظومات العالمية المشابهة.
كما يعزز هؤلاء وجهة نظرهم إن العمل على تغيير الواقع الرسمي العربي هو وحده القادر على استنهاض هذه الجامعة، إذ لا يجوز إغفال السبب (الواقع العربي)، والتعامل مع النتيجة (الجامعة العربية) بل ويرون إن الجامعة على هزالها ودورها، بل عجزها وتواطؤها، تبقى "بيت العرب" الذي يؤكد عروبة المنطقة والذي تحت سقفه يمكن معالجة كل القضايا والمشكلات الدائرة في دولنا...
ويلفت هؤلاء أيضاً إلى محاولات حثيثة قامت بها واشنطن وأدواتها وفي طليعتهم الكيان الصهيوني منذ أوائل تسعينات القرن الفائت من اجل اختراق جامعة الدول العربية وتحويلها إلى "جامعة شرق أوسطية" يكون للكيان الصهيوني دور محوري فيها في إطار ما سميّ يومها "بمشروع الشرق الأوسط الجديد" الذي لم يستطع أصحابه تمريره تماماً فلجأوا اليوم إلى الخطة (ب) من ذلك المشروع القائمة على تقسيم دول المنطقة، وتفتيت مجتمعاتها، واستخدام جامعة الدول العربية كأداة وغطاء لهذا المشروع الذي ابتدأت مفاعيله تظهر مع احتلال العراق 2003، بالإضافة إلى ما شهدته ساحات عربية كفلسطين ( من اجتياحات واستيطان) ولبنان (من حروب واعتداءات) والسودان (من احتراب وتقسيم) وسوريا (من فتنة وإرهاب) وليبيا (من عدوان واضطرابات) واليمن (من عدوان واقتتال) ودول المغرب العربي (من مشاريع ومخططات تهدف إلى تقسيمها إلى مجموعة دويلات)، والامة كلها من تفتيت وتحريض طائفي ومذهبي وعنصري.
إزاء هذه التطورات ، يرى الحريصون على بقاء جامعة الدول العربية إطارا للعمل العربي المشترك إن اضطلاع الجامعة بدورها المأمول منها مرهون بعدة أمور:
1- عودة الجامعة إلى الالتزام بميثاقها الذي قامت عليه والتراجع عن أي خطوة قامت بها الجامعة تجاه دول ساهمت في تأسيسها لا سيما التراجع عن قرار تعليق عضوية دولة مؤسسة في الجامعة كسوريا التي كان ينبغي للجامعة إن تكون جزءاً من الحل لأزمتها لا ان تصبح جزء من المشكلة يزيدها تأزماً واشتعالاً.
2- العمل على تنفيذ كل قرارات القمم العربية في مجالات العمل العربي المشترك، السياسية والاقتصادية والدفاعية والتربوية والإعلامية والاجتماعية ، حيث يقال إن هناك أكثر من ثلاثة آلاف قرار مجمدة في أدراج الجامعة دون تنفيذ، بل إن تنفيذها سيحدث نقلة نوعية في حياة العرب. هنا تتصدر القائمة اتفاقية الدفاع العربي المشترك، واتفاقية السوق العربية المشتركة، وهما اتفاقان يحققان في حال تنفيذهما الأمن والتنمية للأمة العربية.
3- استعادة مصر لدورها القيادي الفاعل على مستوى الأمة وقضاياها من جهة، كما على صعيد جامعة الدول العربية نفسها، إذ أن مصر رغم كل الظروف المعيقة التي تعيشها، هي الدولة المؤهلة بالتعاون مع الاقطار المركزية في الأمة لقيادة العمل المشترك الذي هو أيضاً قوة لمصر وللأمة العربية معاً.
4- إقامة منظومة شعبية عربية مواكبة للمنظومة الرسمية، يشترك فيها قوى المجتمع المدني العربي من اتحادات وهيئات شعبية عاملة على المستوى القومي وتكون مهمتها مراقبة عمل الجامعة، وتشكيل قوى ضاغطة للضغط من اجل تنفيذ قرارات اتخذتها الجامعة في مجال العمل العربي المشترك، وقد أقر المؤتمر القومي العربي في دورته المنعقدة في الخرطوم عام 2009 مشروع نظام هذه الجامعة الشعبية العربية، وهو مدعو للعمل على قيامها كإطار مواز، وليس بديلاً، لجامعة الدول العربية.
إن مستقبل الأمم والشعوب، ناهيك عن المنظمات الإقليمية والدولية، لا تقرره الأماني مهما كانت صادقة، والشعارات مهما كانت باهرة، بل يحققه عمل دؤوب، وعلى كل المستويات ، يقوم على والتواصل والتكامل والتراكم بين القوى الحية في الأمة....
< السابق | التالي > |
---|