وإثر سقوط عدد من متظاهري «الإخوان» المناوئين لحكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، سُئل أحمد سيف، في مقابلة موجزة مع «شبكة رصد» المقربة من «الإخوان»، إن كان يتوقع أن يحمل المتظاهرون السلاح، فأجاب بأن «العنف ليس في مصلحة تطوّر الثورة»، مضيفاً في كلامٍ موجّه للمعترضين: «أنظروا العنف في سوريا عمل إيه».
ظل أحمد سيف متماسكاً لناحية الموقف المبدئي والروح المعنوية، حتى سلّم الروح ووري في الثرى قبل ستة أشهر، تاركاً ابنه علاء وابنته سناء قيد المحاكمة بتهمة التحريض على التظاهر خلافاً للقانون.
ولدى صدور حكم بالسجن المشدّد خمس سنوات على ابنه علاء عبد الفتاح وجملةٍ من رفاقه قبل يومين، لم تجد والدة علاء بداً من التمني بأن يتمتع الأخير بالروح المعنوية ذاتها التي تميّز بها والده، وهو الذي خَبِر السجن في حياته ثلاث مرات، آخرها لخمس سنواتٍ أيضاً، في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
تكاد عائلة عبد الفتاح تختصر براءة الموجة الأولى من «الربيع العربي» ورومنسيتها لدى كثيرين. فقد راجت في النصف الأول من العام 2011 دعواتٌ لتغليب الحقوقي على سواه، باعتباره الركن الرئيس لتأمين حياةٍ سياسيةٍ سليمة، ولمأسستِها وضمان ديمومتها على شاكلة تناوب سلميٍ على السلطة.
بيد أن توابِع الموجة الأولى كانت أكثر تعبيراً عن موازين القوى على مستوى الإقليم، وفي دواخل الدول التي شهدت حراكاً مطالباً بالتغيير، فتفوّق منطق الغلبة على ما عداه من اعتبارات حقوقية تأسيسية. وكان ذلك بديهياً في ظل تمسّك النخب السابقة بامتيازاتها في دول التغيير كافة، وسعي القوة المقابلة الأكـــثر تنظيماً، أي جماعة «الإخوان المســلمين»، لاقتناص اللحظة التاريخية بدلاً من التشارك لتأسيس مرحلة انتقالية، تكون الحياة الديموقراطية فيها الرابح الأكبر.
ولم يكن قرار استثمار الفرصة خاصاً بجماعة «الإخوان» فحسب، بل بداعميْها الإقليميين أيضاً، القطري والتركي، شأنهما شأن إيران وحاجتها الملحّة للدفاع عن نفوذها في سوريا والعراق ورغبتها في تثبيت موطئ قدم لها في فراغ اليمن، وشأن الســـعودية ودول الخليج التي قاتـــلت «الإخوان» وحلفاء إيران بالتزامن، درءاً لدكّ أمواج التغيير أسوارها..
يبدو علاء عبد الفتاح، كما كان والده سيف، آتياً من عالمٍ آخر، حيث الاهتمام بـ «الجزئيات» الحقوقية أكبر من «الكليات» السياسية الكبرى آنفة الذكر. وفي القاموس الحقوقي الذي كرّس والده وقته للدفاع عنه منذ خروجه من السجن العام 1988 ومشاركته لاحقاً في تأسيس «مركز هشام مبارك للقانون»، أحد أوائل المراكز الحقوقية في مصر، أبجديات لم يحِد عنها علاء، الطوباوي بنظر كثيرين: في البدء حقّ التعبير، وبعده سائر الاعتبارات.. لا حياة سياسية سليمة من دون التزامٍ بحقوق الإنسان كما نصّت عليها الشرعة الدولية.. فصلُ السلطات واستقلالية القضاء سابقيْن لأي حديثٍ جديٍ عن تقدمٍ اجتماعي..
لم يعُد في مصر للمسألة الحقوقية وبديهيات «الربيع» الأولى، كتلك المذكورة أعلاه، مساحةٌ عريضة من النقاش الداخلي. ضاقت المساحة حدَّ حشو المسألة تلك في الهوامش النافلة. وكبرت في المقابل الاستحقاقات الداهمة وتعاظمت معها التحديات الوجودية للمجتمع المصري ودولته، ولهويّة الاثنين معاً. بات «التكفيريون» الذين لم تحضر صورهم في السابق إلا عبر الشاشات في استعراض أخبار سوريا والعراق، على تخوم الحدود الشرقية، يذبحون العمال العُزّل. وصار بعضهم داخل «دويلة» سيناء يستعرض قدرته على تنفيذ عمليات انتحارية، تحصد عشرات الجنود دفعة واحدة. وأصبح الفرزُ بين مدافع عن مصر ومؤسساتها والراغب بتفكيك بنى الدولة أو «التمكن» منها منطقٌ غالب، يصعب معه ابتداع حلول وسط.
يكاد الحكم على علاء عبد الفتاح يدفع المرء إلى الترحم على «ذاك الزمن الجميل»، حين برزت ملامح ولادةٍ، سرعان ما تبيّن إثرها أن الحراك مجرّد مخاضٍ أو أن الولادة تمّت مشوّهة، علماً أن أربع سنواتٍ فقط تفصل الزمن ذاك عن حاضرنا. أربع سنوات حافلة بما كان يصعُب على معايشي الموجة الأولى لـ «الربيع» توقعه، المتحمسين منهم لها والمناوئين.
الحكم على علاء عبد الفتاح ورفاقه حكمٌ على عالم آخر، ينفصل فيه الحقوقي عن السياسي، ويشكّل الجزئي فيه مدماكاً لبناء الكلي، ويتفوّق فيه المبدئي على العملي.
قد يبدو العالم الآخر هذا مجرد تهويم أو «هلوسة» اليوم، تماماً كما بدت لسيف، والد علاء، الأحكام المسيّسة التي صدرت ضد «الإخوان»، الذين دافع عنهم برغم انتمائه إلى نقيض خطهم الفكري، وتماماً كما كانت الهلوسات الغيبية لأنصار الجماعة في «ميدان رابعة»، قبل الانقضاض عليهم في المجزرة المروّعة قبل عامٍ ونيّف.
الثابت أننا أبعد عن هذا العالم اليوم، وأن الهواجس الجمعية والسياسات الكليّة أولى من سائر الاعتبارات. بيد أن الثابت أيضاً، أن أي سياسة «كليّة» لا يمكن أن تعمّر بعد كلّ ما حصل خلال أربع سنوات، من دون أن تأخذ «الجزئياتِ» بالاعتبار، وأن تبني عليها.
الحكم على علاء عبد الفتاح هو حكم على «العالَم الآخر» هذا بالسلب. والحكم هذا لا يمكن إلاّ أن يعيق النجاح.. في مواجهة الاستحقاقات الكبرى.
< السابق | التالي > |
---|