في 18 يوليو الماضي كتبت مقالا بعنوان «التنظيم الدولي ينتفض»، أشرت فيه للتنسيق بين مكونات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين من أجل حشد الرأي العام الخارجي ضد الموجة الثورية الثانية في 30 يونيو. كانت المسألة حينها تتعلق بالمشروع
السياسي للتنظيم الدولي وأثر ضياع سلطته في مصر على وضع جماعات الإخوان حول العالم. لكن اعتبارا من 14 أغسطس 2013 لم تعد القضية هي مستقبل التنظيم الدولي، ولا عادت هي الدور السياسي لإخوان مصر في خارطة الطريق المقبلة، القضية تجاوزت ذلك بكثير وأصبحت هي مستقبل علاقة الإخوان بباقي مكونات الشعب المصري . انتقلت القضية من الحيز السياسي إلى الحيز الاجتماعي، وهو مستوى أعقد بكثير من الصراع على السلطة، لأن التفاعلات السياسية تتبدل باختلاف المصالح أما العلاقات الاجتماعية فلها وضع مختلف يخضع للمشتركات الوطنية، لذلك فإن تكديرها عصُى على الإصلاح.
●●●
أوصلتنا جماعة الإخوان قبل 14 أغسطس إلى أن نلح في طرح سؤال متى يتم إنهاء كابوس الاعتصام في رابعة والنهضة؟.. وللعلم فإن السؤال لم يكن يعنى متى يتم فض الاعتصام بالضرورة، لكنه كان يعنى متى يتوقف اتخاذ رابعة والنهضة منصتين للعربدة الإخوانية بطول الوطن وعرضه؟ أتحدى أن يكون مصري واحد قد تذوق حلاوة شهر رمضان أو غمرته الشحنة الإيمانية الراقية التي تصاحب أيامه الثلاثين لتوصلنا إلى أول رشفة من كوب الشاى صباح عيد الفطر. كانت شياطين الإنس تعيث فسادا في كل أرجاء مصر، وما أطلق عليه الإخوان المليونية تلو المليونية لم يكن أكثر من بضع مئات تخرج في أوقات مختلفة فتعطل السير وتهشم السيارات وتغلق المؤسسات وتوتر الجميع. على المستوى الشخصي تعرضت لموقفين يجسدان معاناة المواطن المصري العادي من هذه الغزوات الرمضانية المتكررة، كانت ثانيتهما قبل وقفة العيد عندما نجح بضع مئات على كوبري العباسية في محاصرة المتجهين إلى مصر الجديدة مع غلق شارعي الخليفة المأمون وصلاح سالم، فلم نعد إلى بيوتنا إلا بعد ارتفاع آذان المغرب. لكن ذلك لم يكن إلا نموذجا صغيرا واحدا للمعاناة اليومية لقطاع واسع من المصريين، أما سكان رابعة والنهضة فكان وضعهم مأساويا.
●●●
الأيام الفاصلة بين 3 يوليو و14 أغسطس كانت تحمل تصعيدا متتاليا من الإخوان كي لا يغيبوا عن المشهد، حتى وصلنا قبيل يوم واحد من فض الاعتصام إلى شروعهم في حفر مياه في أرض رابعة وتكرارهم التمدد في طريق النصر رغم المأساة المروعة التي راح ضحيتها 72 قتيل. الدماء في تاريخ هذه الجماعة لا تهم، وإذا كانت دماؤهم لا تهمهم فالأولى ألا يقيموا وزنا لدماء الآخرين، حتى كانت الساعات الأولى من صباح الأربعاء 14 أغسطس وشرعت قوات الشرطة بمساعدة الجيش في إنهاء اعتصامى النهضة ورابعة على التوازي. انطلق الفارون من معتصمي النهضة ليضعوا الأسس لاعتصامات جديدة بالمناطق القريبة منهم : مصطفي محمود وشارع الهرم والمعادى، واقترنت هذه المحاولات باستخدام سلاح في شارع البطل أحمد عبد العزيز رأيناه بأعيننا. أضرمت النيران في العديد من أقسام الشرطة، وكان أكثرها دموية ما وقع في كرداسة بذبح المأمور ونائبه وتسعة من الضباط. أمسكت الحرائق بكنائس الصعيد وامتدت إلى مدرستين من إنشاء إرساليتين تبشيريتين يتعلم فيهما أبناء الوطن من كل دين. نهب متحف ملوي، وأحرقت واجهة مكتبة الإٍسكندرية. أمسكت ألسنة اللهب بسور حديقة الحيوان. قُذفت سيارة شرطة كما تقذف لعب الأطفال في الهواء من فوق كوبري 6 أكتوبر، وبلغ الإجرام مداه بمحاولة إضرام النار في محطة وقود بطريق النصر والله يعلم وحده ما كان يمكن أن يكون حجم الكارثة لو لم يتم تدارك الأمر. أُتلفت ممتلكات المواطنين ومتاجرهم وأُحِرقت السيارات حيثما مرت مسيرات الإخوان الغاضبين، وبات الوطن ليلته على الأضواء المنبعثة من ألسنة النيران في كل مكان.
●●●
لكل معركة خصم أو هدف، فمن كان خصوم أنصار الإخوان يوم 14 أغسطس؟ الدين الآخر ممثلا في الكنائس، والقوت ممثلا في الممتلكات، والكلمة ممثلة في المدارس، والذاكرة التاريخية ممثلة في المتحف، والدولة ممثلة في مؤسساتها، وكل أحد تصادف مروره في طريقهم فحمل روحه على كفيه. بالتأكيد كانت هناك خسائر جسيمة في الأرواح بين صفوف الإخوان وهو ما لا يقبله مخلوق، لكن جزءا من فداحة خسائرهم هم مسئولون عنه، فالأب الذي حمل ابنه أمام كاميرات التصوير مختنقا بالغاز ما الذي دفعه إلى أن يرمى به إلى التهلكة وهو يعلم أن ثمة عنفا قادما في الطريق؟ وقس على هذا.
عندما ينزف الوطن لا يدقق أحد في هوية أصحاب الجرح، يتكلم الدم فيصمت الجميع. والآن وقد وصلنا لما وصلنا إليه وانسد الطريق السياسي أمام مشاركة الإخوان، فالفرصة الأخيرة متاحة أمامهم ليثوبوا إلى رشدهم، فيفتحوا المصاحف على آيات حقن الدماء لا على آيات الجهاد التي لا تخص الخلافات الداخلية، يتصالحوا اجتماعيا مع هذا الوطن الذي لا يصدق أن هؤلاء كانوا يحكمونه حتى وقت قريب، فهم لن يلقون الآخرين في البحر ولن يتم إلقاؤهم هم، إنما قدر علينا أن نسبح معا في البحر نفسه ونواجه الأمواج ذاتها، وهذا يفترض أن يتصدر العقلاء المشهد، فهل من عقلاء يتقدمون؟
< السابق | التالي > |
---|