فضيحة مالية كبيرة طفت على السطح، هذا الشهر، حول الإعلام العراقي والعربي، وهي بحاجة الى الاهتمام والتقييم. وكنت قد كتبت أكثر من مرة عن دور الإعلانات السياسية الترويجية، مدفوعة الثمن، التي لعبت دورا حاسما في شراء تعاون أو صمت بعض اجهزة الإعلام، العراقية والعربية، على انواعها مع الاحتلال.
ومن بين الإعلانات الدعائية الموجهة الى الجمهور العراقي، خاصة، والعربي عموما، هي الإعلانات التي يتم بثها (وأقوى الإعلانات واكثرها تأثيرا على المتلقي هي التلفزيونية) تحت اسم "محاربة الإرهاب".
ومن بين أهم القنوات التي بثت (بعضها لا يزال) هذه الإعلانات قناة "الشرقية" العراقية وقنوات عربية اخرى مثل "العربية" و"روتانا" والأم بي سي وقنوات لبنانية اخرى بالاضافة الى قنوات دول الخليج وصحافتها.
وكنت قد كتبت سابقا عن تفاوت المستوى الفني لهذه الإعلانات. اذ كانت الإعلانات المنتجة في 2006 و2007 تهدف الى تشويه صورة المقاومة وتقديمها باعتبارها المسؤولة عن الإرهاب المستهدف للابرياء وعدم الاكتفاء بالترويج لسياسة الاحتلال فحسب.
ثم ظهرت إعلانات تبشر بإعادة الإعمار، وتؤكد أن البلد يستعيد عافيته. في حينها، تم بث الإعلانات المنتجة في استديوهات لوس انجليس وبميزانية تجاوزت عشرات الملايين وبتقنية فنية عالية تجمع ما بين جمالية اللقطة السينمائية وقوة التأثير المستندة الى كل ما يحبه ويتأثر به العراقي.
وكان عنوان مسلسل الإعلانات التي تم بثها في البلاد العربية بشكل واسع هو (كلا للإرهاب) وهو ذات العنوان المستخدم من قبل الادارة الأمريكية واجهزة التوجيه الإعلامي العسكري ووحدة التوجيه السايكولوجي في البنتاغون والهادف الى تكريس الاحتلال. وكما هو معروف فان الانتاج التلفزيوني والسينمائي يتطلب مبالغ كبيرة تتجاوز بكثير تكلفة المقالات التي كتبها جنود الاحتلال ونشرت في الصحف العراقية باقلام عراقية مأجورة وبثمن يتراوح ما بين 30 - 100 دولار للمقالة. فمن اين أتت الاموال لشراء المساحات الإعلانية التلفزيونية والتي يقدر سعرها بالآلاف للثواني؟ ومن هو الممول صاحب المصلحة في تقديم صورة جميلة عن المحتل ومستخدميه؟
هناك بالتأكيد ميزانية مخصصة من قبل وزارة الدفاع للإعلام الترويجي العسكري الهادف الى تقديم صورة حسنة عن قوات الاحتلال باعتبارها قوات "تحرير" جاءت الى العراق لمساعدة شعبه على بناء الديمقراطية وتأسيس حقوق الإنسان و"مكافحة الإرهاب".
وهذه المخصصات تبلغ الملايين وهي معلنة ومعروفة حسب السياسة الأمريكية في الكشف عن بنود ميزانيتها (على الاغلب) وتعتبر المخصصات جزءا اساسيا من إستراتيجية العمل العسكري الناجح. حيث وقع البنتاغون الأمريكي، بداية الاحتلال، عقدا مع اربع شركات أمريكية بقيمة 300 مليون دولار لانتاج مجموعة من الإعلانات الدعائية للبث والنشر في اجهزة الإعلام العراقية والعربية تهدف الى تغيير نظرة العراقيين الى الوجود العسكري الأمريكي واظهار (الجوانب الايجابية) لاستمرارية بقاء قوات الاحتلال. وهو العقد الثاني للبنتاغون خاصة مع شركة لنكولن. هذا من جهة البنتاغون ولكن، ماذا عن مساهمة مستخدمي الاحتلال في شراء الاصوات والمحطات والقنوات والصحف الهادفة الى تحسين صورة المحتل وصورتهم؟
كيف حدث واصيبت معظم اجهزة الإعلام العراقية والعربية بالخرس تجاه ما يجري في العراق من جرائم مريعة وفضائح فساد تزكم الانوف؟ ما هو الثمن و ما هو مصدر التمويل؟
للاجابة على هذه التساؤلات، علينا قراءة بيان أصدره مركز الإعلام الاقتصادي، ببغداد، يوم 27 أيلول/ سبتمبر 2011 وجاء فيه ان هناك ما يشير الى "استمرار العمل بقرار الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر ابان عام 2003 بأن يخصص 2 بالمئة من عائدات النفط كإعلانات تلفزيونية ضد الإرهاب يوزع على وسائل إعلام عربية ومحلية".
وهذه هي المرة الاولى التي يتوضح فيها مصدر التمويل، خاصة وان البيان صادر عن مركز احتفى اعضاء بارزون في الحكومة بتأسيسه ولا يحسب على الجهات المناهضة للاحتلال.
وتصل النسبة المذكورة "وفق تقديرات موازنة العام المقبل الى ملياري دولار وهي مبالغ كافية لتنفيذ 40 الف وحدة سكنية". اما اذا حسبنا التكلفة منذ اصدار القرار في عام 2003، فان ما صرف على شراء رضى وسكوت اجهزة الإعلام العراقية والعربية يزيد على 10 مليارات دولار في وقت تحولت فيه المرأة العراقية الى سلعة للبيع والشراء في دول الجوار واطفالنا الى مشروع اجرام مستديم بسبب الفاقة والتهجير وقلة الخدمات.
ويبين المركز ان المبالغ المدفوعة لعام واحد "اعلى من التي حصل العراق عليها كقروض من البنك الدولي طيلة السنوات الماضية والتي اخضعته لجملة من الاجراءات الاقتصادية المتقشفة لابقاء التعاون مفتوحا معه".
ولمن يحاجج حول اهمية الإعلام الكبيرة في التوعية والتأثير والتغيير، وفي مجال مكافحة الإرهاب بالتحديد، فان المركز الاقتصادي الإعلامي، يوضح بانه كان بامكان العراق "تمويل قناة إعلامية ضخمة توازي قناتي الجزيرة والعربية والتي لا تتجاوز موازناتها اﻠ2 بالمئة من عائدات النفط العراقية خلال السنوات الاربع الاخيرة". مطالبا "بايضاحات حول سبب منح تلك الجهات هذه المبالغ خصوصا انه لا توجد اية مؤشرات تؤكد ان هذه الإعلانات ساهمت في الحد من العمليات الإرهابية او عادت بالفائدة على الشعب العراقي".
وما لم يذكره البيان هو ان هذه الإعلانات المعنون معظمها "كلا للإرهاب" و"الإرهاب ليس به دين" يليه دائما شعار "أنا مسلم انا ضده" قبل ان تظهر صورة "الإرهابي" محمود بلحيته واسمه المطبوع بجانب اشلائه.
فاذا كان الإرهاب بلا دين، كما يقولون، وهنا اقتبس تعليق احد مشاهدي الإعلانات على اليوتيوب "إن كان كذلك حقاً، فأين صور ومشاهد الإرهاب الذي يمارسه الصهاينة في فلسطين، والاحتلال الأمريكي ومرتزقة بلاك ووتر في العراق وأفغانستان؟".
ولم يصدر أي رد فعل من "الحكومة" حول هذه القضية الخطيرة باستثناء تصريح لعضو في اللجنة المالية النيابية نافيا الخبر وان اضاف قائلا: "لا توجد لدينا نية لتخصيص اي مبلغ للإعلانات التلفزونية خلال العام الحالي... وان موازنة هذا العام لم تصل الى اللجنة المالية ومازالت لدى الحكومة".
هذا هو التوضيح الرسمي حول دفع عشرة مليارات دولار لاجهزة الإعلام العراقية والعربية، فهل تستغربون وجود العديد من فضائح هدر المال العام، أو سلب ممتلكات العراق وشعبه، كما حدث مثلا عند العثور على مئات القطع الأثرية في مطبخ رئيس الوزراء؟
وعلى من تقع مسؤولية هذا الهدر والاستهانة بالعقول ان لم يكن على من سلمهم الاحتلال مقاليد الأمور شركاء له، أو شهود الزور على هذه الفترة المظلمة من تاريخنا؟
< السابق | التالي > |
---|