زيارة بيروت في أواسط العام، بين شهري يوليو ـ تموز وآب ـ أغسطس يعني أن الموسم السياحي في أوجه، والطقس رغم كل التغيرات المناخية مناسب في الحدود المنتظرة. مع أن موجة الحر هذا العام عالمية. حين غادرت بريطانيا باتجاه لبنان، كانت درجات الحرارة متقاربة تماما، وكأن المسافات بينهما واحدة وركوب الطائرة للتوصيل وحسب.
أي أن أيام المصيف والمشتى لم تعد كما كانت أيام الزمن الجميل. ولكن بيروت تبقى مدهشة زاهية بأهلها وزوارها من كل نوع وصنف، وكأنها سفينة نوح في عهد يدور حول نفسه، ولا يرغب التغيير بذاته ولذاته. المهم ما زالت لبنان بلا حكومة جديدة بعد انتخابات تشريعية ناجحة وديمقراطية بشهادة المحب أو الكاره، لها ولنتائجها التي أثبتت روح لبنان القوي، رغم كل الأزمات. ويروي أبناء بيروت، لا سيما سائقو سيارات التكسي عن طرائف كثيرة حصلت معهم في فترات مرت فيها بيروت، أحدهم ذكر لي أن مواطنا غربيا، وما أكثرهم هنا، وما أكثر ما يخبون في حقائبهم للبنان، قال له; هنا في بيروت تعرفت على الرب، الله الذي يسيٌر العالم وبيروت، لا حكومة ولا مظاهر بارزة تدل عليها، وكل شيء يمشي فيها كمجرى الماء، وتدور الساعات في أمان وحرية وسكينة إلى حد ما. وآخر يحكي قصصا ظريفة عن أسماء معروفة في ما يسمى بالإعلام اللبناني; الطبقة السياسية المتنفذة بالبلاد، وما لها وعليها من إثباتات فساد وأدلة ارتكاب لانتهاكات صارخة لا يمكن التستر عليها في غير مكان، إلا في لبنان.
أكثر الناس تشكو من الغلاء وقلة الرواتب أو الموارد ولكنك تتعجب أن مطاعم ومقاهي بيروت، وما أكثرها، تعج بالزبائن ليل نهار وكل شيء فيها يباع بأسعار لبنانية لا تقارن حتى بأسعار أمثالها في غير عاصمة أوروبية، التي تتوافر معدلات الرواتب والعمل والثراء فيها بما لا يتشابه مع ما في لبنان. والنظام السياسي في لبنان دخل اسمه ومصطلحه القاموس السياسي ويحذر من استنساخه أو التمثل به، اللبننة. وكثيرا ما ردد في خشية منه في أقطار غزاها المستعمر الغربي أو احتلها أو أسهم في إشعال الحرائق فيها ودفع فيها من يركب موجتها ويعبر عن مصالح الإمبريالية ومتخادميها في المنطقة أو خارجها.
تتنسم في بيروت فعلا نسائم الحرية والديمقراطية بنكهة لبنانية خاصة، فتشعر بها أمامك ومن حولك، وتظل في مساحتها وفضاءات التميز المحسوب، كما تحسب فواتير الهاتف الخليوي المدفوع مسبقا أو فواتير الأماكن الأخرى! وفي هذه الأجواء تعيش بيروت على الصعد المختلفة، وأبرزها بعد صراعات السياسة وكواليسها، وزوار بيروت القادمون لحلحتها أو تعقيدها، المؤثرون أو المحركون أو المهتمون فيها فعلا، تأتي الفعاليات الثقافية عموما، لتقرأ أو ترى في وسائل الإعلام الكثيرة، والشاكية من تقلص فرص استمرارها أو دعمها، عن مهرجانات الموسيقى والغناء، عن حفلات الفنانين المعروفين وعن البومات جديدة أو مشاركات تسجل في المشهد الثقافي العربي. كما هو حاصل في الندوات الثقافية والعروض السينمائية وغيرها، الكبيرة التي ترى إعلاناتها في الشوارع أو الصغيرة في المسارح أو بعض المقاهي التي عرفت بها ونالت الإعجاب. ومثلها في معارض الكتب ووسائل الإعلام وتطوراتها التقنية وإبداعات المبدعين في شتى المجالات وعلى مختلف المستويات.
في بيروت تختبر الكثير من الأمور الاجتماعية والثقافية والإنسانية، فتعرف محبيك الصادقين وأصدقاءك المخلصين فعلا عن غيرهم ممن يتصنعون الصداقة أو يستثمرون فيها، فإذا حصلوا على مبتغاهم منك توددوا إليك فترة إضافية، وحين تنتهي الفترة تكشف وتظهر حقائق أو وجوه كانت مطلية أو مخفية خلف حجب وأستار. وفي الأخير هذه هي الحياة بثرائها وغناها وسعتها وصعوباتها ومتغيراتها وما سجله السابقون عنها ولم يحفظه اللاحقون، غفلة أو براءة أو حسن ظن.
توجهت إلى بيروت هذه المرة للمشاركة في مؤتمرين مهمين هما، الدورة التاسعة والعشرون للمؤتمر القومي العربي والملتقى الرابع للمنتدى العربي الدولي للعدالة في فلسطين. وكلاهما مؤتمران كبيران يشترك فيهما المئات من أعضاء وضيوف من كل أقطار الوطن العربي وأحرار من كل العالم. ويناقشون في المؤتمر القومي العربي أوراقا كثيرة، في السياسة العربية والإقليمية والدولية ومستجداتها، وفي حال الأمة ومتغيراتها وتطوراتها، ومبادئ المشروع النهضوي العربي الأساسية، في الحرية والديمقراطية والوحدة والعدالة الاجتماعية والتنمية والتجدد الحضاري. وفي كل دورة قضية رئيسية وهذه الدورة ركزت على قضية ما سمي بصفقة القرن وتداعياتها وسبل مواجهتها. وانتهت هذه الدورة بانتخابات لأمين عام جديد للمؤتمر وأمانة عامة وكالمعتاد إصدار بيان ختامي للمؤتمر. ورد في البيان الختامي تأكيد ومواقف المؤتمر الثابتة عن القضايا الأساسية والبوصلة في القضية المركزية للأمة وقراءة التحولات والتطورات على جميع الأصعدة والساحات العربية والدولية. كما نقل المؤتمر تحياته للمقاومة وشهدائها وقوى التحرر الوطني ومؤسساتها الوطنية، التي أسهمت في تحرير الأرض والكرامة العربية وردت مشاريع وخطط الإمبريالية وأذنابها الرجعيين على أعقابها وانتصرت لمصالح الأمة وأهدافها.
اقترن افتتاح المنتدى الدولي العربي للعدالة في فلسطين بتحرر المناضلة الفلسطينية الشابة عهد التميمي من سجنها الصهيوني ليطلق اسمها على هذا الملتقى في هذه السنة. ووفرت فرصة حرية عهد للمنتدى والمناضلين في كل مكان، وخصوصا في فلسطين المحتلة، قوة دفع وزخم لإعلاء القضية الفلسطينية عالميا والرد المباشر على قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اعترافه بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي ونقل سفارة بلاده إليها وتعرية عنصرية الكيان وأسياده، رغم كل الضغوط والإغراءات والتهديدات للانصياع لسياسات الإمبريالية في المنطقة.
ومثلما رد الشعب الفلسطيني وكل القيادات والحركات التقدمية برفض القرارات الأميركية وما سمي بصفقة القرن أعلنت عهد التميمي، أيقونة فلسطين الصاعدة، في أول مؤتمر صحفي لها من قريتها الفلسطينية، أن مدينة القدس الشريف هي العاصمة الأبدية لفلسطين، كانت وما زالت وستبقى، مهما اشتدت عواصف الغدر أو التآمر أو الركوع والرهانات المتخادمة معها. وهو ما خلص إليه المنتدى في إعلان بيروت الختامي.
< السابق | التالي > |
---|