كنت حتى أسابيع قليلة مضت أحد المراقبين الذين لم يتوقعوا أن يستقر قرار القيادة الصينية على الكشف عن بعض أحدث الأسلحة المتقدمة في عرض مبهر يقام بمناسبة العيد التسعين للجيش الصيني ، غلب الاعتقاد عندي وعند آخرين على أن الصين سوف تستمر لفترة أخرى تنفذ سياسة تأجيل قرار خروجها إلى العالم وإعلان الاستعداد لتحمل كامل مسؤولياتها كدولة عظمى مشاركة في القيادة الدولية.
كانت لنا أسبابنا، وجدنا الصين مرتاحة إلى سياسة تأجيل اقتحام مواقع القيادة الدولية اقتناعاً وتواضعاً من جانبها إلى أن شروط مشاركتها في هذه القيادة لم تكتمل بعد. لا يزالون في الصين يعتقدون أن الأمور الداخلية لم تستقر تماماً إلى الحد الذي يسمح للقيادة السياسية تطوير أولوياتها والانغماس في شؤون الخارج، يعتقدون أيضاً وعن حق أن خبرتهم في إدارة النزاعات الإقليمية والدولية لا تزال محدودة وقدرتهم على التأثير في قرارات دول أخرى لا تزال هي الأخرى في حاجة إلى محكات اختبار عديدة.
من ناحية أخرى كان قادة الصين الفخورون بما حققوه على صعد الثورات التكنولوجية والإنتاجية والمالية يدركون في الوقت نفسه ضخامة الحاجة إلى مواصلة التركيز على عمليات تحديث المجتمع الصيني. أدركوا وإن متأخرين قليلاً استحالة عزل الثقافة الصينية عن ثقافات العالم بحجة خصوصيتها البالغة. ولا شك أن بعث مشروع طريق الحرير بتسميته الجديدة مهد طريق اختلاط الثقافة الصينية بالثقافات الأخرى وتشجيع التفاعل بينها، الأمر الذي حققت فيه الهند خلال العقدين الأخيرين بتطويرها ممارسات وأفكاراً لتصبح مصدر قوة ناعمة ومورد دخل معتبر للبلاد.
فجأة وبدون مقدمات إعلامية وسياسية معتادة في الصين تم الإعلان عن نية الاحتفال بالعيد التسعين لجيش التحرير الصيني بإقامة عرض عسكري، وكان عرضاً مبهراً. كذلك كانت التحليلات التي تعرضت لهذا الحدث المهم والذي ترجع أهميته إلى أن إدخال الجيش في مسيرة دخول الصين ساحة التوازن الدولي كان قراراً مؤجلاً لحين استكمال شروط أخرى عديدة لم تكتمل. كذلك يصعب إغفال موقع جيش التحرير الصيني في منظومة الحكم في البلاد عند اتخاذ قرار على هذه الدرجة من الأهمية. من الجائز جداً أن تكون المبادرة قد جاءت من جانب الجناح العسكري في الحكم لاعتبارات استراتيجية قدرها القادة العسكريون، جائز أيضاً وشائع أن الرئيس «تشي» بنفسه كان وراء القرار بهدف تمتين وتمكين قاعدة التأييد له خلال اجتماع الحزب بعد أسابيع.
نحن أيضاً أمام احتمالات أخرى تبرر إصدار قرار على هذا المستوى يحمل رسالة إلى كافة القوى الكبرى عن نية الصين الكشف عن جانب مهم من جوانب قوتها الكلية لأول مرة على امتداد ثلاثة أرباع القرن. أميل إلى تفضيل احتمالات، أو فلنقل اجتهادات، بعينها. أعتقد أن قادة الصين، ككثيرين غيرهم من قادة العالم صاروا مقتنعين بأن وجود الرئيس ترامب على رأس الحكم في واشنطن يتسبب في أضرار لدول عديدة وليس فقط للولايات المتحدة. المسألة لا تتعلق فقط بعدد من قناعاته مثل موقفه من حرية التجارة، قدس أقداس العولمة وشريان الرخاء للصين، ولكن تتعلق أيضا بسلوكياته هو وعائلته وإدارته وبالفوضى الناشبة في البيت الأبيض. جائز جداً أن يكون قادة الحزب في الصين اختاروا ألا ينتظروا أطول مما انتظروا وليشرعوا في انتزاع أو استلام مكان في موقع القيادة الدولية قبل أن تزداد أوضاع القيادة الدولية تدهوراً.
جائز أيضاً أن تكون الصين قد قررت «اللعب على المكشوف وبالواقعية المطلوبة». حان أوان أن تحصل الصين علناً على مقابل لما تقدمه للدول من مزايا محمولة على طريق الحرير، هي الآن تطالب اليونان بثمن لإنقاذها من أزمة الديون الخارجية، طالبت وحصلت على نصيب في ملكية تسهيلات ميناء بيريه، المصب المثالي لتدفقات حمولة طريق الحرير. لو صح هذا التوجه لصارت القوة العسكرية كمكون أساسي في توازن المصالح والقوة ضرورة مصاحبة للتوسع في التجارة والاستثمارات والنفوذ في منطقة بحساسية أوروبا.
محتمل جداً أن تكون القيادة العسكرية الصينية قد انتبهت إلى خطورة ما وصلت إليه برامج التسلح في الهند. راقبت القيادة الصينية بتسامح جهود تسلح «العدو» الهندي إدراكاً منها لحقيقة أن إمكانات الهند لن تسمح لها بتوسع شديد في برامج التسلح إلا إذا كان الرئيس مودي قد وجد في الولايات المتحدة نصيراً أو حليفاً يدفعه للمغامرة أو التهور. من هنا وقع الانتباه إلى ضرورة تفعيل القوة الصلبة الصينية لردع الهند والمؤسسة العسكرية الأمريكية.
لن يبقى طويلاً بدون حل لغز استعراض الصين لقوتها الصلبة في هذا الموعد المبكر. قريباً، بل قريباً جداً، يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره الأساسي ليتخذ قرارات مهمة ويضع سياسات جديدة. المؤتمر الماضي أوصل تشي إلى منصب الرئاسة وعدل المكتب السياسي ليكون في صالح الرئيس الجديد، وهو أيضاً المؤتمر الذي أطلق من خلاله الرئيس تشي صيحة الحلم الجديد، حلم بعث طريق الحرير وتجديد دماء العولمة بجعلها عولمة صينية المعالم. يأمل الرئيس تشي أن يجدد المؤتمر القادم له الولاية لفترة ثانية ويخلصه من بعض كبار عناصر الفساد في الدولة والحزب، يأمل أيضاً في أن يحصل مسبقاً على دعم الذراع الثانية في منظومة الحكم وهو جيش التحرير الصيني. كان لافتاً لمراقبين عسكريين غربيين أن الرئيس تشي ارتدى زياً عسكرياً، ولكن خالٍ من علامات الرتب. أراد أن يكسب الجيش إلى صفه دون أن يفرض نفسه عليه، لأنه في واقع الأمر ليس منه ولا يمكن أن يكون.
< السابق | التالي > |
---|