بعد حربين عالميتين بدت ألمانيا محطمة ومقسمة وأجزاء من أراضيها نزعت عنها وكل مواطن فيها متهم بأنه نازي.
التجربة المريرة انعكست على صحافتها وأسئلة البوصلة طرحت بقسوة على الذين تصدوا لتأسيس ألمانيا الجديدة.
بتعبير مؤسس «دير شبيجل»، فإن شيئا عميقا قد انكسر ويحتاج إلى وقت طويل لترميمه كما أخبر في الخمسينيات المحرر الشاب في ذلك الوقت «فولكهارد ويندفور» الذي عمل لأكثر من نصف قرن مراسلا للمجلة الألمانية الشهيرة في القاهرة.
رغم التقدم الاقتصادي الباهر وإعادة توحيد ألمانيا منذ ربع قرن وقيادتها للاتحاد الأوروبي إلا أنها وفق «ويندفور» لا تجد نفسها فيه.
بصورة ما تجد الآن فرنسا شريكتها الرئيسي في مشروع أوروبا الموحدة أمام حالة مشابهة تحت صدمة العمليات الإرهابية التي روعت عاصمتها باريس كما لم يحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
شرخ ما جرى للاعتقاد الفرنسي في الوحدة الأوروبية.
باريس الأكثر حماسا للمشروع الأوروبي تتساءل الآن بقلق بالغ عن الأخطار القادمة من الحدود المفتوحة.
البلد الذي وجد نفسه في الوحدة الأوروبية يكاد أن يقترب بصورة أخرى من الحالة الألمانية.
أمام الرعب الاستثنائي لجأت السلطات الفرنسية إلى إجراءات استثنائية.
فرضت الطوارئ واغلقت الحدود ودعت الباريسيين لعدم مغادرة منازلهم عقب الهجمات الدموية المتزامنة.
بلا إبطاء أصدرت مجموعة من القرارات التي تطمئن المواطنين من ناحية وتتعقب مصادر النيران من ناحية أخرى.
في التعقب فتحت كل الملفات ولم يستبعد احتمال واحد.
أخطر الملفات الحرب السورية فإلى أي حد تتبدل السياسات؟
القضية ليست ضرب موقع ﻟ«داعش» في الرقة أو غيرها، فمثل هذ الضربات معنوية والتنظيم المتطرف يعرف كيف يتعايش معها ويتمدد برغمها.
بحسب الإشارات الأولية هناك توجه لتسوية سياسية ما للأزمة السورية ارتفعت نبرتها بعد ضربات باريس لكنها تظل متواضعة بحسب اعتراف الرئيس الأمريكي «باراك أوباما».
مستقبل الإقليم المشتعل بالنيران قد يأخذ مسارا آخر تحت ضغط الخوف من تمدد الإرهاب داخل أوروبا نفسها.
اللافت أن الرئيس الفرنسي طلب مساندة إقليمية من تركيا وإيران والخليج لكنه تجاهل مصر التي تعاني من الإرهاب وتخوض حربا ضارية معه.
هذا تعبير مباشر عن تراجع الوزن الدبلوماسي في ملفات على مثل هذه الدرجة من التعقيد يستدعي المراجعة والتصحيح والاعتراف قبل ذلك بمواطن الخلل في الأداء العام.
رغم الأهمية البالغة للوضع في الإقليم فإن الملف الأوروبي يفوقه في أية حسابات فرنسية.
التخوف من حرية الانتقال بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يلقي ظلالا كثيفة على الفكرة.
السؤال هل التوحيد الأوروبي يناقض فكرة الأمن الوطني، فالحدود المفتوحة حروب مفتوحة؟
بحسب ما توصلت إليه الأجهزة الفرنسية فإن التفجيرات الإرهابية صممت في الرقة وخططت في بروكسل ونفذت في باريس.
يتداخل هنا المكون السوري مع المكون الأوروبي في قضية التفجيرات.
في المكون الأول استبقت الاتهامات التحقيقات توجيه أصابع الاتهام إلى المهاجرين السوريين الذين دخلوا فرنسا هروبا من الجحيم بحق اللجوء الإنساني.
بعض أسباب الاشتباه طبيعية، فمن حق فرنسا أن تتخذ كل الإجراءات الاحترازية للتأكد من أن الذين دخلوا أراضيها ليس بينهم إرهابيون استفادوا من حق اللجوء الإنساني ليهدروا أية قيمة إنسانية بتقتيل مدنيين في مطعم أو مسرح أو استاد لكرة القدم.
وبعضها الآخر أفلت غضبها إلى حدود يخشى معها من عقوبات جماعية، فكل لاجئ «إرهابي» وكل عربي «متهم».
في انفلات الغضب مشروع تزكية للإرهاب والدخول في حلقة لا نهائية من الانتقام المتبادل على أساس الهوية القومية أو الدينية.
ضبط التصرفات بين ما هو احترازي وما هو منفلت اختبار فرنسي صعب.
إذا تساهلت فالعمليات الإرهابية قد تتكرر وإذا انتقمت ممن لا صلة لهم بالإرهاب تخسر صورتها كبلد يقدس الحريات العامة والقيم الإنسانية.
رغم التأكيدات القاطعة من الرئيس الفرنسي «فرانسوا أولاند» على وحدة المواطنين في مواجهة الخطر والالتزام بدولة القانون إلا أن أحدا ليس بوسعه أن يجزم بأن الأمور سوف تمضي وفق تأكيداته.
اليمين الفرنسي المتطرف تحركت آلته السياسية والإعلامية لإشاعة الكراهية والعداء استثمارا للأجواء المرعبة.
واليسار الاشتراكي، الذي خرج الرئيس من صفوفه، يجد نفسه محشورا بين القيم الفرنسية والاحتمالات المرجحة لخسارة أية انتخابات مقبلة لصالح اليمين.
أمام البرلمان بغرفتيه طلب «أولاند» تعديلا دستوريا يسمح بإجراءات أكثر حزما.
تحت سيف الخوف قد تهدر مبادئ دستورية وقانونية استقرت في حماية الحريات والحقوق العامة.
إسقاط الجنسية عن المشتبه في أنهم يحرضون على الإرهاب يناقض روح المبادئ الفرنسية وأصول الدول الحديثة، إذا تورط أحدا في إرهاب فالقانون يحاسبه بصرامة.
أما إسقاط الجنسية فإنه يفتح الباب واسعا لترحيلات جماعية لفرنسيين من أصول عربية دون محاكمة عادلة أو تحقق جدي من مثل هذا التحريض.
السؤال هنا: هل تعديل الدستور يخدم الحرب على الإرهاب أم أنه يوسع من دائرة البيئة الحاضنة للإرهاب؟
الاحتمال الثاني أرجح.
ربما يتصور الاشتراكيون الفرنسيون أن خطابا من مثل هذا النوع يلجم طموح اليمين المتطرف إلى اعتلاء السلطة.
غير أن هذه اللعبة تصب في مصلحة كل ما هو متطرف.
كلما ذهبت إلى اليمين المتطرف خطوة بعد أخرى فإن ممثليه الأصليين يحصدون الجوائز وحدهم.
لا يمارى أحد أن حادثا بمثل هذا الحجم من الترويع نقطة تحول جوهرية تختلف بعدها الاعتبارات والحسابات والمعادلات.
لكن السؤال هو: إلى أي حد وبأية رؤى سوف تحدث القطيعة الفرنسية مع السياسات المتبعة والقيم التي أضفت عليها هيبة الإلهام للعالم كله؟
أمام الوضع الاستثنائي تقف عاصمة النور والثقافة والجمال أمام المرآة، تواجه نفسها بلا مكياج وتنظر في مستقبلها بلا اطمئنان.
بذات القدر تقف دول أوروبية أخرى أمام نفس المرآة تتدبر خطواتها المقبلة، فما جرى في باريس ينذر عواصمها بحوادث إرهابية مماثلة.
ألمانيا تراجع ملفاتها وتنتظر التفاهمات في الاجتماعات الأمنية المقبلة مع الشركاء الأوروبيين.
فأي أوروبا ننتظر؟
وبريطانيا تستشعر الخطر الداهم ورئيس وزرائها «ديفيد كاميرون» يعلن أن لندن أحبطت نحو سبع عمليات إرهابية في ستة أشهر.
أمام المرآة الفرنسية تتبدى أزمات الشرق الأوسط وكتل النيران فيه.
فمن يتحمل المسئولية؟
بحسب تصريحات الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» فهناك دول دولية وإقليمية مولت الإرهاب ومدته بالسلاح.
الاتهامات متواترة والدول معروفة بالاسم.
المثير أن هذه الدول أصدرت بيانات إدانة تتعاطف مع الضحايا الفرنسيين.
بعض الذين يلعنون الإرهاب هم بعض صناعه.
فرنسا نفسها تدفع ثمنا باهظا لتورطها في حربي ليبيا وسوريا.
تورط رئيسها السابق «نيكولاي ساركوزي» في الحرب الأولى كلاعب رئيسي قبل أن يترك ليبيا ﻟ«القاعدة» و«داعش» والميليشيات المتنازعة.
كما ورط بلاده في الحرب الثانية، التي كانت قبل تدويلها حربا إقليمية بالوكالة.
لم تكن فرنسا بعيدة عن مد خطوط الاتصال مع أكثر الجماعات تطرفا بظن أن تسليحها يسقط نظام الرئيس السوري «بشار الأسد».
بصورة أكثر بشاعة حطمت إدارة الرئيس الأمريكي السابق «جورج دبليو بوش» مع حليفه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق «توني بلير» العراق ثاني أكبر دولة عربية بادعاء امتلاكه أسلحة دمار شامل وأن «القاعدة» متحالفة مع نظام «صدام حسين».
الادعاءان ثبت كذبهما تماما على ما اعترف الذين ارتكبوا واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية ثم أفلتوا من كل حساب وعقاب.
الحقيقة أن «القاعدة» تمركزت في العراق بعد غزوه وتقسيمه مذهبيا وعرقيا.
الاحتلال استدعى «القاعدة» التي أسلمت رايتها إلى «داعش».
هذه حقائق لابد أن ينظر الغرب إليها في المرآة الفرنسية دون أن يبرر ذلك أية شماتة لما جرى لمدينة النور من ترويع وظلام وسقوط ضحايا بينهم مصريون.
التضامن واجب إنساني والشماتة حماقة سياسية.
< السابق | التالي > |
---|