في اللعب مع الأطراف الدولية الكبرى لا تجوز الأحاديث المبهمة أو التوقف في منتصف الطرق.
بعد (30) يونيو كان الطريق إلى موسكو شبه إجباري.
لم يكن هناك طريق آخر لتخفيف الضغوط الغربية الهائلة على نظام الحكم الجديد.
باستثناء الدعم المالي والدبلوماسي من دول الخليج الرئيسية بدت مصر تحت حصار شبه محكم، الاتحاد الأوروبي يهدد بعقوبات اقتصادية والاتحاد الأفريقي يعلق أنشطتها والولايات المتحدة تقود أوركسترا الضغوط.
فُتحت أبواب الكرملين أمام الرسائل المصرية وجرت تفاهمات استراتيجية سرعان ما انتقلت إلى العلن.
باليقين فإن الانفتاح على موسكو ساعد على رفع الثقة العامة في مواجهة الضغوط أيا كانت ضراوتها ووقف صفقات السلاح، أيا كانت أحجامها.
من نتائجه أن الغرب أعاد النظر بأسرع من أي توقع في طريقة تعامله مع المستجدات المصرية.
خسارة مصر لا تحتمل في أية استراتيجية غربية بأكثر أقاليم العالم حساسية وخطورة.
لم تكن روسيا مستعدة وفق مصالحها الاستراتيجية أن تهدر فرصة الرهان مجددا على مصر.
أبدت استعدادا لمد القوات المصرية بأحدث ما تحتويه ترسانتها العسكرية من طائرات «ميج 29» وصواريخ «إس 300» وانفتحت على أي تعاون اقتصادي محتمل يستعيد روح الستينيات في بناء القلاع الصناعية ووقعت على عقود لبناء محطات نووية للاستخدامات السلمية.
في زيارة الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» إلى القاهرة فبراير الماضي تجددت أحاديث العلاقات الاستراتيجية على نحو لافت قبل أن يخفت كل حديث.
الظاهرة نفسها تكررت في العلاقات مع بكين، فقد توقف القادة الصينيون باهتمام بالغ أمام ما أعلنه الرئيس «عبدالفتاح السيسي» من توجه لبناء شراكة استراتيجية، قبل أن يخيم الصمت كاملا.
بين النوايا والسياسات فجوة عميقة تأخذ من الرهانات على أي شراكة دولية مع مصر قوة دفعها وصدقيتها.
الدول الكبرى ليست مولات تذهب إليها تتسوق ما تشاء من أسلحة وتقنيات ومصالح اقتصادية قبل أن تذهب إلى حال سبيلك.
إذا لم تكن هناك رؤية على قدر من الوضوح تحدد أين تقف وماذا تريده، وتدرك بذات القدر ما الذي يريده الشركاء الآخرون فإن أي رهانات متبادلة سوف تتقوض سريعا.
الانفتاح على المراكز الدولية الكبرى من علامات قوة أية دولة وتنويع مصادر التسليح علامة قوة أخرى.
تحمست باريس لتسليح مصر بطائرات «رافال» بأثر الحديث عن صفقات مماثلة مع موسكو وأعادت الإدارة الأمريكية معونتها العسكرية بالأثر ذاته.
قبل زيارة الرئيس المصري مباشرة إلى باريس، قال السفير الفرنسي في القاهرة على مائدة غداء ضمته إلى مصريين وفرنسيين: «سوف نستقبله في الإليزيه بأفضل مما استقبله بوتين في سوتشي».
في الترحيب الروسي رهان على الرجل الجديد في مصر، وقد كان لافتا أن اجتماعا بين «السيسي» و«بوتين» استمر لعشر ساعات كاملة تخللتها جولات مطولة.
وفي الترحيب الفرنسي تنافس طبيعي على اكتساب المصالح الاستراتيجية امتد منطقه إلى الحواضر الأوروبية الأخرى.
لم يكن ممكنا أن تتحلحل العلاقات مع الغرب وعواصمه الكبرى، وآخرها ألمانيا، الأكثر تحفظا على تحولات (30) يونيو، ما لم تظهر موسكو في مقدمة المشهد كبديل محتمل على مستوى استراتيجي.
أسوأ خيار ممكن أن تتراجع مصر عما أقدمت عليه من انفتاح على عالمها بغير الطريقة التي استقرت لأكثر من أربعين سنة وأفضت إلى تهميش أدوارها بصورة مزرية.
في منتصف الطريق بين النوايا والسياسات علت الشكوك الروسية في مدى الالتزام المصري بأي معنى جدي للشراكة الاستراتيجية.
وجدت الشكوك طريقها إلى ما يشبه الإفصاح على لسان مسئولين كبار.
لم يعد ذلك خافيا ولا سرا.
معنى الشكوك أن القاهرة وازنت الضغوط الغربية بالورقة الروسية قبل أن تعود السياسات إلى سابق عهدها.
لا توجد سياسة خارجية منفتحة بثقة على عالمها إذا كانت تعاني خللا في خياراتها الرئيسية.
هل نبني دولة حديثة أم نعيد إنتاج الماضي بصورة جديدة؟
ما النموذج الذي نحتذيه وما الأفكار الجوهرية التي نتبناها؟
إذا كان التوجه هو الانفتاح على المراكز الدولية المتعددة، مع موسكو وبكين دون قطيعة مع واشنطن، فهل من الممكن تأسيس هذا النموذج بلا رجال يؤمنون به ويعملون وفق مقتضياته؟
هناك أزمة مصرية يعرفها العالم كله أنها تفتقد الآن بفداحة إلى طبقة رجال دولة قادرة وكفؤة، ومن بين علامات الأزمة التغييرات المتكررة في الأجهزة الحكومية والدبلوماسية والأمنية دون أن يصحبها تحسن في مستوى الأداء العام.
بغير دليل عمل فالأداء لن يتحسن مهما كانت الجهود المبذولة، وهذه مسألة خيارات وتصورات.
هناك قصة ترمز لأزمة هذا البلد في حسم توجهاته العامة.
عند استقبال الرئيس الروسي في دار الأوبرا المصرية عرض فيلم تسجيلي مدته سبع دقائق عن العلاقات بين البلدين، تضمن مشاهد للقاءات تاريخية، «جمال عبدالناصر» و«نيكيتا خروتشوف»، «أنور السادات» و«ليونيد بريجينف»، «السيسي» و«بوتين». غير أنه أضيفت في اللحظات الأخيرة مشاهد لـ«حسني مبارك» و«بوريس يلتسين».
القضية هنا ليست في المشاهد المضافة بقدر ما هي الرؤية التي حكمت من أصدر قرار إضافتها.
لماذا كان حريصا إلى هذا الحد على حضور صور «مبارك»؟
ورغم أن «السادات» هو من أصدر قرار طرد الخبراء السوفيت من مصر، عشية حرب أكتوبر التي خاضتها القوات المسلحة المصرية بسلاح سوفيتي، إلا أن هناك معنى لإدراج صورته مع نظيره السوفيتي هو ذاته معنى الحرب والانتصار فيها.
ما معنى «مبارك» و«يلتسين» في أي رهان مستقبلي على العلاقات المصرية الروسية، فالرئيسان السابقان يرمزان إلى تدهور مروع في البلدين وكلاهما لم يدرك قيمة البلد الذي يحكمه.
الأول، همش الدور المصري في محيطه وأحال البلد كله إلى «خرابة» بتعبيره هو نفسه.. والثاني، كاد يوصل روسيا إلى حافة الإفلاس والفوضى وحكم عصابات المافيا.
ربما تساءل الروس: ما الذي يريده المصريون؟
الأهمية الحقيقية لزيارة الرئيس «السيسي» إلى موسكو هنا بالضبط.
الزيارة بمناسبتها احتفالية روسية خالصة والزيارة بتوقيتها إيجابية بالنظر إلى منزلق التساؤلات عن حقيقة التوجهات المصرية.
الاحتفال الروسي بالذكرى السبعين للانتصار على القوات النازية في الحرب العالمية الثانية يستهدف تأكيد هيبة السلاح، وأن موسكو لاعب رئيسي لا يمكن لأحد أن يهمشه على خرائط العالم.
والحضور المصري يستهدف بث شيء من تجديد الثقة في الرهانات المتبادلة لكنها تحتاج إلى نفس طويل وسياسات مستقرة.
هذا ما تفتقده مصر بفداحة، فبعض الذين يتولون ملفات مستقبلها ينتمون إلى الماضي.
لكل علاقة دولية رهانات على المستقبل وعقد في التاريخ.
العقدة الروسية أن تكرر مصر مرة أخرى صدمة السبعينيات، أن تنتصر بسلاحها قبل أن تسلم أوراق اللعبة كلها للولايات المتحدة.
< السابق | التالي > |
---|