قضيُّة تعامل دول البترول العربية، وعلى الأخصٍّ دول مجلس التعاون الخليجي ذات الفوائض المالية الكبيرة ـ مع متطلبات الإيديولوجية الليبرالية الجديدة التي تحكم وتسيطر على مسار العولمة الاقتصادية التي يعيشها العالم حالياً.. قضية نوع هذا التعامل أصبحت قضية بالغة الأهمية وشديدة الخطورة لسببين.
السَّبب الأول هو اقتناع الكثيرين من المحلٍّلين الاقتصاديين الموضوعيين بأن الغالبية السّاحقة من دول العالم الثالث، الدول النامية، قد أصابها الضرر الكبير من جراء تطبيقها الأعمى غير المشروط للمبادئ الاقتصادية التي تنادي بها تلك الإيديولوجية، وعلى الأخص مبدأ ما يعرف بحرية الأسواق وحرية التجارة على المستوى الوطني وعلى مستوى ما بين الدول.
وبالطبع فان غالبية الدول العربية، وعلى الأخصَّ غير البترولية، تقع ضمن قائمة تلك الدول المتضرٍّرة.
السًبب الثاني يتعلق بمدى تأثير تطبيق تلك الإيديولوجية على دول البترول االغنية، تأثيره على قدرة تلك الفوائض المالية لإحداث تنمية اقتصادية وإنسانية شاملة في دول البترول من جهة وفي بقية الدول العربية من جهة أخرى. وبمعنى آخر هل أن التزام دول البترول باملاءات منظمة التجارة الدولية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي جميعها تؤمن بمبادئ إيديولوجية الليبرالية الجديدة، هل التزامها سيضيع الفرصة على العرب لاستعمال فوائض البترول لإحداث تنمية حقيقية مستدامة؟
هذان السَببان يحتاجان أن يُّنظر في جوانبهما على مستويين: مستوى مجلس دول مجلس التعاون الخليجي لأنه يضُّم دولاً ذات فوائض مالية هائلة، ومستوى دول مجلس الجامعة العربية لأنه سيضُم دولاً بأنظمة سياسية جديدة تحسب ألف حساب لجماهير شعوبها التي لن تغُّمض أعينها بعد ربيع الثورات والحراكات العربية المبهرة. لكن العبء الأكبر سيقع على كاهل دول البترول القادرة، إن أرادت، على أن تكون القاطرة التي ستجُّر قاطرات التنمية العربية نحو تنمية عربية مستدامة شاملة.
من هنا سنركُّز عبر مجموعة من المقالات المقتضبة على ما يمكن أن تفعله دول مجلس التعاون الخليجي تجاه بعض الإدًّعاءات والمبالغات في التطبيق التي تصٌّر على التمسًّك بها الدول القائدة لمسيرة العولمة الرأسمالية، وعلى رأسها بالطبع الولايات المتحدة الامريكية.
في تلك المقاولات سنطرح أسئلة حول قضايا مفصليًّة من مثل مدى إمكانية بناء صناعة محلية وعربية قادرة على المنافسة الدولية إذا لم تقم حكومات دولنا بحماية تلك الصناعة الوليدة في مراحلها الأولى وحتى حين تشبُّ عن الطوق؟ أو من مثل مدى الحاجة لاجتذاب رؤوس أموال استثمارية إلى دول فيها فوائض مالية هائلة تضطر لتصديرها إلى الخارج لتنمية اقتصاد الآخرين، في حين يبقى اقتصادها المحلي متخلفاً وتبقى تنميتها مشوَّهة ”بل ومن مثل الشروط التي يجب أن توضع على الاستثمارات الأجنبية من أجل أن تساهم في إحداث تنمية وطنية حقيقية بدلاً من إحداثها لفقاعات مالية أو عقارية لا تلبث أن تنفجر في وجوه هذه المجتمعات في حين تفرَّ تلك الاستثمارات في طرفة عين؟ وأخيراً من مثل نوع الخطوات الضرورية لبناء قدرات ذاتية تنموية قادرة على المساهمة في إحداث اقتصاد إنتاجي ومعرفي، كما فعلت بعض الدول الصغيرة الأخرى، في آسيا على سبيل المثال؟
إن الأسئلة السياسية والثقافية التي تطرح الآن، وذلك على ضوء الأحداث الثورية الكبرى التي اجتاحت الوطن العربي كله إبًّان السنة الماضية والتي هي مرشحًّة للاستمرار لسنين طويلة قادمة لتشمل جميع المجتمعات وتهزَّ جميع الأنظمة السياسية العربية، إن تلك الأسئلة السياسية والثقافية تحتاج أن تسير معها جنباً إلى جنب أسئلة تنموية اقتصادية تكمٍّلها وتقلب الحراك العربي إلى نهضة حضارية طال انتظار مجيئها.
إن قدر الثورات والحراكات العربية الحالية قد كتب عليها أن تتعامل مع مسؤوليتين ثقيلتين: مسؤولية التعامل مع الاستبداد والتخلُّف الداخلي ومسؤولية التعامل مع العولمية الرأسمالية المتوحشة الخارجية. إنه قدر كبير، لكن شباب الربيع العربي سيقدرون على مواجهته وحمله بجدارة.
< السابق | التالي > |
---|