تقف السياسة الخارجية التركية على حد السكين لمناسبة مرور عام على الأزمة السورية .
فما كان قبل عام ربما أصبح من التاريخ . وما أنجزته الدبلوماسية التركية على مدى السنوات الثماني الماضية بات يحتاج الى تقييم في حسابات الربح والخسارة .
1- تعاملت تركيا مع الثورات العربية بمنتهى الواقعية المتناغمة مع المصالح التركية .فأيدت تنحي الرئيس المصري حسني مبارك لأنه كان عقبة أمام التمدد المصري في المنطقة بسبب علاقات أنقرة حزب العدالة والتنمية مع حركة حماس في غزة وتداعياتها على الداخل المصري وجماعة الإخوان المسلمين .
وفي ليبيا كانت المصالح التركية تتقدم ليكون الموقف التركي مؤيداً للزعيم الراحل معمر القذافي ومعارضاً للتدخل الأطلسي قبل أن تتبدل الظروف فتقتضي أيضاً المصالح تبديل الموقف .
2- شكلت الأزمة السورية محطة فاصلة بين مرحلتين في السياسة الخارجية التركية .اذ اختلفت طريقة التعاطي التركي معها عن طريقة تعاطيها مع الثورات العربية التي حصلت في البلدان الأخرى .
فقد لعبت عوامل عديدة في تغيير السلوك التركي مع سوريا وبالتالي انعكاسات ذلك على تركيا ودورها .
سوريا دولة مجاورة جغرافياً لتركيا وما يحدث فيها له تأثيرات في الواقع التركي . كان يمكن لحكومة رجب طيب أردوغان أن تسلك أكثر من خيار تبعاً لطبيعة أهداف السياسة الخارجية التركية .
قبل الثورات العربية كانت السياسات التركية تصب في اتجاه تعزيز التكامل مع الجوار العربي، ولا سيما مع سوريا وإيران والعراق . وفي تلك السياسات كانت أنقرة راضية بموقع اللاعب الشريك إقليمياً مع آخرين مع السعي لتعزيز الموقع، لكنها لم تكن سياسة إلغاء للآخر .
مع بدء الثورة في سوريا تراءى لأنقرة فرصة أن تكون اللاعب الإقليمي الأساسي وليست مجرد شريك لآخرين . وشرط ذلك إسقاط النظام في سوريا وتقديم التيار الديني الإسلامي في المعارضة السورية على ما عداه . حتى اذا نجحت في هدفها أتيحت الفرصة كاملة لتتفرد أنقرة بالنفوذ في المنطقة .
مع أن أنقرة دعت النظام في سوريا الى الإصلاح وبقيادة الرئيس بشار الأسد غير أنها لم تراع مدى قدرة النظام على الدخول في عملية الإصلاح، هذا بمعزل عن الرغبة في الإصلاح من عدمها .وسارعت الى حد التسرع في منتصف إبريل/نيسان إلى الانخراط في الاستقطابات ووقفت علناً إلى جانب المعارضة السورية السياسية والعسكرية وانتهى الأمر الى الدعوة العلنية لاعتماد كل الخيارات ضد سوريا بما فيها العمل العسكري، كما جاء على لسان وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو .
غير أن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر . تفككت المعارضة السورية الخارجية وضعف “الجيش السوري الحر” وعجزت تركيا عن القيام بأي عمل ضاغط عسكرياً بمفردها، فباتت في موقع المتفرج والعاجز عن تثمير هذه السياسة، كما العاجز عن التراجع بعدما أحرقت كل المراكب خلفها .
اختارت تركيا الرهان على لعبة قاتلة بحيث اذا سقط النظام انتصرت وإذا لم يسقط النظام قاربت عملية الانتحار . حتى الآن الوقائع تؤشر الى الخيار الثاني .
3- الرهان على التغيير الإقليمي واكبه رهان على تغيير في التوازنات الدولية أيضاً . تغيير النظام في سوريا في اتجاه نظام موال للغرب وتركيا، كان يعني أيضاً تغيير خريطة التوازنات المحيطة بتركيا . النجاح في سوريا كان يعني خسارة مؤكدة لروسيا في المنطقة وتالياً في القوقاز .
هنا أيضاً اختارت تركيا طريق إضعاف القوة الروسية . إسقاط النظام في سوريا هو مجرد محطة في إسقاط روسيا .تركيا اختارت محطة أخرى أيضاً وهي نصب الدرع الصاروخية في منطقة ملاطية . ليس من أحد إلا ويذكر التصريحات الروسية النارية وعلى لسان فلاديمير بوتين نفسه عن أن روسيا ستلجأ الى كل الوسائل لحماية نفسها ضد الدرع الصاروخية غربي روسيا (أوروبا) وجنوبها(تركيا) .وصلت العلاقات التركية مع روسيا الى درجة أن روسيا أصبحت في العام 2008 الشريك التجاري الأول لتركيا في العالم .كان بإمكان تركيا أن تختار المضي قدماً في تعزيز العلاقات مع روسيا فتستفيد هي وتستفيد روسيا . لكنها لم تفعل واختارت المواجهة عبر الدرع الصاروخية وضرب إحدى ركائز النفوذ الروسي في المنطقة أي سوريا .
عند التساؤل عن أسباب كل هذه الرهانات التي ثبت حتى الآن خطأها وعدم جدواها لا يجد المرء تفسيراً مقنعاً سوى أن تركيا لا تعرف بعد جيداً منطقة الشرق الأوسط التي غابت عنها ثمانية عقود قبل أن تعود قبل سنوات قليلة غير كافية لتدرك في العمق طبيعة التوازنات والحساسيات، فكان سقفها عالياً فلا تمتلك القدرة على الرجوع ولا على التراجع لتقف وحيدة أمام الحائط المسدود . وفي ظل ارتباطات تركيا الغربية والأطلسية ليس هناك ما يشجع على القول إنها قادرة على العودة الى المنطقة كواحدة من مكوناتها الأصلية.
< السابق | التالي > |
---|