تواجه معظم المجتمعات العربية إشكاليتين في وقت واحد تعوقان تطلع هذه المجتمعات، كغيرها من مجتمعات دول العالم الثالث، نحو الحرية والحكم الديمقراطي، في وقت يعيش فيه العالم تفاعلات ثلاث ثورات في وقت واحد، هي الثورة السياسية التي تعني التحول من الحكم الاستبدادي التسلطي إلى الحكم الديمقراطي، والثورة المعرفية التي تبتغي التحول نحو إنتاج المعرفة على قاعدة من مجتمع المعلومات، وأخيراً الثورة القيمية التي أخذ يتجه فيها العالم من تسلط القيم المادية إلى إعادة الاعتبار للقيم الروحية والدينية. هذه الثورات الثلاث التي تأخذ العالم نحو ثورة كونية حقيقية مازالت غائبة عن وطننا العربي، وإن كان هذا الغياب بدرجات مختلفة، وهذا الغياب له أسبابه الكثيرة والمتنوعة، لكن تأتي في مقدمة هذه الأسباب تلك الإشكاليتان اللتان نتحدث عنهما وهما إشكالية النموذج وإشكالية الخصوصية العربية.
وإذا كان المجال لا يتسع للخوض في تفاصيل هاتين الإشكاليتين، فإن ما يهمنا منهما ذلك الدور المعوق الذي تلعبانه معاً في عرقلة التطور السياسي والديمقراطي في معظم الدول العربية، ونعني هنا بإشكالية النموذج تلك السلبيات المترتبة على ارتباط المشروع الديمقراطي العربي، في حالة وجوده، بالدعوة الديمقراطية للديمقراطية. والأكذوبة التي ترسخت في أذهان كثير من النخب العربية أن الولايات المتحدة معنية بمشروع التطور الديمقراطي في الدول العربية، وأن هذا الاهتمام الأمريكي يكاد يكون قد أضحى مصلحة أمريكية، كما نعني بالخصوصية العربية تلك الأكذوبة التي تروجها الحكومات العربية للتنكر لمايجب أن تقوم به من أدوار لتأسيس حكم ديمقراطي، متذرعة بأن المجتمعات العربية لها خصوصياتها التي تجعلها غير مؤهلة للحكم الديمقراطي.
بالنسبة إلى إشكالية النموذج، أي النموذج الذي يروج للعرب باعتباره أفضل ما يمكن أن نتطلع إليه من أجل الرقي السياسي والديمقراطي الذي استقر نخبوياً على أنه النموذج الأمريكي، فإنه بالنسبة إلينا كعرب ينطوي على إشكاليتين أولاهما أنه نموذج غير جدير بالثقة والاعتبار، أي لا يصلح أن يوصف بأنه “نموذج”، وثانيتهما الدور السلبي الأمريكي في عرقلة عملية التطور السياسي والديمقراطي في الدول العربية.
فالحلم الديمقراطي الأمريكي أخذ في التداعي، وبالذات سيطرة هاجس الحلم الإمبراطوري على الإدارة الأمريكية (إدارة جورج بوش السابقة) التي أخذت الدور الريادي في تسويق التجربة الديمقراطية الأمريكية كنموذج مثالي للمجتمعات العربية. وقد عبر المخرج المسرحي السوفييتي (سابقاً) أناتولي فاسيلييف عن إحباطه من تداعي ذلك الحلم في الديمقراطية الأمريكية بقوله “إن إحدى النتائج الموسعة للبيروسترويكا (تجربة التحول السوفييتي نحو الديمقراطية) كما صاغها الزعيم السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشيف التي دافعت عنها ضلالاً أو انتهازية أكثر من دوافع القناعة، هي أننا فقدنا العمل في بلادنا من دون أن نكسب الحرية التي وعدنا بها”.
هذا النموذج الديمقراطي الأمريكي يزداد تشويهاً من خلال الدور المعرقل للتحول الديمقراطي في كثير من الدول العربية الذي تقوم به الإدارة الأمريكية والمؤسسات المالية الدولية الموالية لها، فعادة ما تنحاز الإدارة الأمريكية إلى دعم نظم عربية استبدادية وتسلطية إذا ما خيرت بين دعم هذه النظم أو الانحياز لدعم المطالب الديمقراطية في هذه الدول، والمبرر الدائم هو أن الانحياز للمصالح الأمريكية هو العامل الحاكم لهذا الاختيار الأمريكي.
وقد فسرت دراسة مهمة وضعتها الكاتبة نورا بن سهيل لحساب مؤسسة راند الأمريكية للأبحاث بقولها، إن الموقف الأمريكي من دعم التحول الديمقراطي في الدول العربية يحكمه عامل المصلحة الأمريكية في الأجلين القصير والطويل.
ففي الأجل الطويل قد يعدّ التحول الديمقراطي مصلحة أمريكية لأنه يحقق الاستقرار ويحد من الصراعات، لأن الدول الديمقراطية أقل ميلاً إلى التورّط في صراعات مع دول مجاورة وأكثر استعداداً للسلام (هذا المفهوم جرى الترويج له لدعم حملة جورج بوش لغزو العراق من منطلق أن العراق الديمقراطي سيكون أقدر على تحقيق السلام مع “إسرائيل”).
أما في الأجل القصير، فإن التحول الديمقراطي يضر بالمصالح الأمريكية، فهو يزيد من عدم الاستقرار الداخلي في الدول العربية، ومن ثم يهدد الاستقرار الإقليمي ويزيد من حدة المشاعر العدائية للولايات المتحدة، وقد يسمح بوصول جماعات مناوئة أو معادية للمصالح الأمريكية إلى الحكم، ويؤثر سلباً في استعداد الحكومات للتعاون الأمني مع الولايات المتحدة، وقد ينعكس سلباً على المصالح الأمريكية في المنطقة ومن بينها مصالح “إسرائيل” في السلام، (الموقف الأمريكي من أزمة مصر السياسية الراهنة نموذج شديد الدلالة والوضوح على ذلك).
تأتي إشكالية “الخصوصية العربية” لتفاقم من الأزمات التي تواجه عمليات التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي في الدول العربية، حيث تروج “الطبقات” و”الفئات” الحاكمة بكثافة عبر إعلامها ومؤسساتها لهذه الخصوصية التي تزعم فيها أن المجتمعات العربية باعتبارها “مجتمعات متخلفة” غير مؤهلة بعد للحكم الديمقراطي، وكأن الحكم الديمقراطي مخصص لنوعيات دون غيرها من البشر. هذا الزعم يعتمد على بعض مقولات ونظريات الفكر السياسي الغربي في تفسير ظاهرة التخلف، حيث ترجع تلك النظريات التخلف الذي تعانيه مجتمعات دول العالم الثالث إلى عوامل ذاتية في هذه المجتمعات، مثل الإرث القبلي، والفقر، والأمية، والصراعات العرقية والطائفية، وغياب التكامل القومي، وسيطرة النزاعات والعلاقات دون القومية، كما تزعم هذه النظريات أن تحوّل هذه المجتمعات من التخلف إلى التقدم يجب أن يمر عبر مراحل عديدة تشابه تلك المراحل التي مرت بها مجتمعات الدول الغربية، ما يعني فرض نوع من الحتميات وتأجيل حقوق شعوب تلك الدول في الحرية والديمقراطية إلى عقود طويلة، إلى أن تعبر من التخلف إلى التقدم بأنواعه المختلفة.
هذه النظريات جرى دحضها وتكذيبها وتعرية مزاعمها، وإنكارها مسؤولية الاستعمار عن تخلف مجتمعات هذه الدول، وكيف أن هذه الدول هي من دفع أثمان التقدم الذي تعيشه الدول الغربية الاستعمارية، كما جرى تجاوزها من خلال نجاح دول عديدة في العالم الثالث من التحول المباشر إلى الحكم الديمقراطي من دون تقيّد بتلك الحتميات الكاذبة.
لكن الواقع العربي يقول إنه إذا كانت هناك خصوصية عربية تفوق التحول الديمقراطي فهي ليست في الشعوب، ولكن في نظم الحكم، حيث يسود احتكار السلطة والثروة، وترفض تحالفات و”تضامنيات” القوى الحاكمة أن تتنازل عن احتكارها للسلطة خشية خسارة احتكارها للثروة وتعرضها للمحاسبة، ولذلك فإن هذه الخصوصية هي العائق الأهم، وهي جوهر مزاعم فكرة الخصوصية التي يجب تجاوزها، مع تجاوز الإشكالية الأخرى الخاصة بعدم جدارة النموذج الديمقراطي الأمريكي حتى يتخلص العرب من قيودهم التي تعوق طموحاتهم الديمقراطية.
< السابق | التالي > |
---|