الأهرام- السبت 6 يناير 2018 السنة 142 العدد 47878
توقف تطور النظام السوفيتي بعد انتصار ثورة 1917 عند مرحلته الأولى، مرحلة «اشتراكية الدولة» التي أسس قواعدها لينين ثم ستالين. ثم تحجر النظام عند هذه النقطة حتى أخذ يميل إلى أن يتحول إلى رأسمالية الدولة في عصر برجينيف.
روى برجنيف صعود طموحات الطبقة القائدة المستفيدة من النظام «النومنكلاتورا» إلى أن تحول أعضاؤها إلى رأسماليين أصحاب الملكية على نمط بورجوازية الغرب، ثم اعتمد يلتسين وجورباتشوف على هذه الطبقة من أجل إنجاز «الإصلاحات» المزعومة تحت عنوان جذاب: «إعادة هيكلة النظام وإضفاءه الشفافية». أثبتت التطورات التي تلت فراغ الشعار الذي اختفى وراءه مشروع إسقاط النظام بحاله، لتحل محله رأسمالية منفلتة لصالح بورجوازية خرجت من صفوف النومنكلاتورا.
ارتكب يلتسين وجورباتشوف جريمة «الخيانة»، إذ إن سقوط رأسمالية الدولة صاحبته ردة فاحشة في مجال الحفاظ على «المصالح الوطنية» لشعوب الاتحاد السوفيتي. فانفجر الاتحاد وأصبحت الجمهوريات المكونة له دولا تابعة. ودخلت روسيا نفسها في نفق. اعتمدت خطة الإمبريالية على تبني وصفة «العلاج بالصدمة من أجل تدمير فوري وشامل لمؤسسات الدولة بحيث يصبح المجتمع عاجزاً في مواجهة الهجوم المنهجي المخطط. وقد ساهمت قطاعات واسعة من البورجوازية الروسية، ومثيلاتها في الجمهوريات المستقلة الجديدة، في تنفيذ البرنامج لمعرفتها أن هذا هو ثمن إثرائها السريع.
أولاً: تحول روسيا إلى وضعية تخومية في النظام الرأسمالي العالمي المعاصر:
تميل المنظومة الإنتاجية الروسية إلى أن تنحصر في قطاعات إنتاج المواد الخام للتصدير فلم تقم الحكومة بإصلاح القطاعات الصناعية والزراعية وهي قطاعات لا يهتم بها رأس المال الدولي ولا البورجوازية الكومبرادورية الجديدة. بالإضافة إلى إن الحكومة سمحت بتدمير التعليم والقدرات الإبداعية التي كان النظام السوفيتي يحافظ عليها حفاظ العين. ثم تم تفكيك الصناعات التحويلية وبيع أقسام منها بأثمان رمزية وذلك لإقامة «منشآت» تعمل من الباطن لصالح الاحتكارات الأجنبية التي تمتص الفائض المنتج في نشاطها. ويعتمد نظام السلطة على طبقة «وسطى» جديدة نشأت مع التحول الكومبرادوري. تختلف أوضاع روسيا الموصوفة هنا عن الصين التي رفضت «العلاج بالصدمة» وحافظت على استقلال رأسمالية دولتها.
ثانياً سلطة أوتوقراطية غير مسئولة
يحول نمط الرأسمالية الروسية دون تقدم ديمقراطي، تعبيرا عما تقتضيه ممارسة سلطة الأوليجاركية الكومبرادورية الجديدة. وفي هذا الإطار أقام دستور 1993 نظاما رئاسيا يخفض سلطات الدوما (البرلمان المنتخب) إلى ما يقرب الصفر.
اندرجت سياسة بوتين في مرحلتها الأولى في هذا الإطار. ولم يكن «اليمين» الجديد قادرا على تخطي حدود تكوين جماعات صغيرة ترعد بالضوضاء عاجزا عن ايجاد حزب سياسي بالمعنى الصحيح. كما أنه لم يصبح قادرا على بلورة مشروع بديل للسوفيتية يكون متماسكًا ومقنعًا، يصاحبه خطاب أيديولوجي جاذب. فظل هذا اليمين أسيرا لنمط المنحط لرأسمالية المحاسيب.
ظل الحزب الشيوعي يتمتع بدرجة من الشعبية. إلا أنه ظل متجمدا، دون تجاوز حدود الشعارات الموروثة، وبالتالي ظل عاجزا عن مواجهة التحدي الجديد. ثم ظهر على يسار هذا الحزب مجموعات «ماركسية» مجددة ولكن هذه المجموعات هي الأخرى لم تخرج - إلى الآن- من عزلتها في حلقات «نقاش» دون كسب جماهيرية.
ثالثا: صعود طموحات إقليمية منفلتة
أنتج سقوط النظام السوفيتي ظروفا ملائمة لانفجار طموحات إقليمية منفلتة. ولئن كانت هذه الطموحات موجودة في ظل النظام السوفيتي، إلا أن السلطات بذلت المجهود المطلوب بروح من المسئولية، كي لا تنفلت الأمور باللجوء إلى التفاوض (لعله «المساومة») مع القوى المعنية، والعنف إن لزم الأمر. تبخرت روح المسئولية. وصارت كل فئة تدفع مصالحها الخاصة دون اعتبار للمصالح الأعلى. بل أخذت تكتلات الأوليجاركية تستغل الطموحات الاقليمية عندما وجدتها تفيد مصلحتها.
ليست الحركات الإقليمية في روسيا «قومية» (أو «دينية») الطابع بالضرورة. فهناك على سبيل المثال طموحات إقليمية في أماكن نائية في سيبريا بالرغم من كون سكانها من الروس. ولكن هناك أيضا حركات إقليمية ازدهرت على أرضية مطالب قومية، لاسيما في المناطق الإسلامية (مثل إقليم الشيشان). واستغل العدو الإمبريالي المناسبة للتدخل السافر في شئون روسيا الداخلية. ثم لجأت السلطة المركزية الروسية إلى استخدام العنف في مواجهة هذه الحركات واستغلت عمليات الإرهاب التي باشرتها بالفعل بعض هذه الحركات لتبرير رد الفعل العسكري.
هناك إشارات توحي أن بوتين بدأ يدرك خطورة الموقف. ولاسيما أن العديد من محافظي الأقاليم المنتخبين طبقاً للدستور قد أصبحوا أطرافا في الحركات الإقليمية. فأصدرت الرئاسة قانونا يتيح لها حق تعيين موظفين (أسمتهم «مديرو الأقاليم») لهم حق الفيتو ضد قرارات المحافظين. مرة أخرى لا يتجاوز هذا الحل حدود ممارسة الأتوقراطية تفاديا البحث عن حلول صحيحة من خلال التفاوض.
< السابق | التالي > |
---|