الأهرام الأربعاء 20 ديسمبر 2017 السنة 142 العدد 47861
شهدت منذ طفولتي هزائم متكررة لبلادنا في مواجهة قوى بريطانية فرنسية إسرائيلية أمريكية، تجمعت تحت اسم الأمم المتحدة داخل مبنى شاهق بمدينة نيويورك،
يشهد كل عام مؤتمرات سلام وشراكة وتعاون وديموقراطية، تتضاعف بعدها الدكتاتورية والحروب المتطورة بأسلحة دمار شامل وتكنولوجيا التجسس والقتل بالريموت، لم نعد نرى القتلة، فقط المقتولين وأجسامهم المتفحمة بالنار الذرية أو الهيدروجينية أو النووية الأشد لهيبا من جهنم.
قال المدرسون في طفولتنا إن نار جهنم صنعها الله ليحرق من لا يؤمنون بالله والرسول، أما نحن المسلمين فسندخل الجنة، وفي مقدمتنا الملك الصالح، يدعو له مشايخ الأزهر من فوق المنابر أن يحفظه الله للأبد حاكما للبلاد، وكانت الذات الملكية مقدسة تعلو فوق النقد مثل الذات الإلهية وأكثر.
بعد سقوط الملك تحولت الذات الملكية الى الذات الجمهورية، وبعد احتلال إسرائيل لأرض فلسطين ارتفعت الأصوات من فوق المنابر تدعو الله أن يحرق إسرائيل، وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة الحليف الأكبر لإسرائيل تصاعد الهتاف «تسقط إسرائيل وأمريكا»، لكنهم لم يسقطوا، بل تضخمت قوتهم وتوحشوا، رغم انتهاكهم المواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن ومبادئ الأديان والقيم الإنسانية والأخلاق، واستمروا في قتل الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه تنفيذا لوعد الله لهم في التوراة، وأخيرا صدر قرار «دونالد ترامب» بنقل السفارة الأمريكية الى القدس، وكله بأمر الله.
كان «أمر الله» هو السلاح الأقوى في الحروب منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض حتى يومنا هذا، وهو سلاح «مراوغ» مثل كلمة الديموقراطية والعلمانية، وقد أعلنت إسرائيل مؤخرا أنها «دولة يهودية» لمجرد الاحتفاظ بالأرضي المحتلة، واحتلال المزيد من الأراضي من النيل الى الفرات، كما ورد في الكتاب المقدس.
رغم ما نشهده من هزائم متكررة، وما نعانيه من ضربات متتالية من إسرائيل والقوى الإرهابية التي تقتل وتنهب باسم الله، رغم الدعاوى المستمرة لتجديد الفكر الديني، إلا أننا فشلنا في كسر القوقعة، التي يقبع داخلها عقلنا المقهور المستسلم للأمر البشرى المستتر تحت أمر الله.
في المدرسة كان أخي يسقط في الامتحان، ويقول إن الله أراد له السقوط ، ولو أراد الله له النجاح لنجح ، وإذا نجح رغم إرادة الله سيدخل النار، وكان أبى يعرف أن أخي يكره المدرسة ولا يذاكر الدروس، ويتهرب من مسئولية سقوطه ويلقيها على الله، ويقول أبى لأخي: لا تراوغ مثل «معاوية» الذي كان يقول لمن يتهمه بظلم الناس «يريد الله ما أفعله، ولو كره الله ما أفعله لمنعه»، أدركت منذ تلك اللحظة كيف يرتدي الظلم السياسي قناع «إرادة الله»، وأصبحت أرفض أي شيء يفرض علي باسم أمر الله، وكان أبي وأمي يشجعاني على ذلك منذ طفولتي، أصبحت أحترم عقلي القادر بالحوار والإصرار، أن يفرض إرادتي الحرة على أي إرادة تحاول السيطرة علي، لكن احترامي لعقلي وإرادتي أصبح «جريمة» في نظر القوى المسيطرة في الدولة والدين والعلم والطب والأدب والثقافة وغيرها.
كان واضحا لي أن السلطة السياسية العليا تتحكم في كل شيء ثم تتخفي وراء أمر الله، وأصبحت هدفا للهجوم الضاري، والاتهامات الخطيرة، أقلها «الكفر» وعدم الإيمان بالقضاء والقدر، وكان السادات، رئيس الدولة حينئذ، قد أعطى نفسه لقب «الرئيس المؤمن» وأصبح حاكما بأمر الله، تحت اسم الديموقراطية ، يشجع القوى الدينية السياسية، ويزج بالسجون المعارضين له، والمشايخ من حوله يشيعون أن حجاب المرأة هو أمر الله، والقيم الظالمة المفروضة على النساء هي شرع الله، ومنها تعدد الزوجات وتزويج القاصرات وعمليات الختان واستبداد الأب في الأسرة، وغيرها من العادات الموروثة منذ العبودية، والتي أصبحت سائدة في بلادنا، تحاصر العقل داخل قوقعة الجمود والخضوع لكل محاولات القمع والاستعباد المتخفي وراء الدين، بهدف استلاب إرادتنا الحرة، واختيارنا لأفعالنا، ومسئوليتنا عن سلوكنا في حياتنا العامة والخاصة، وإضعاف إرادة الشعب وقدرته على الثورة وإسقاط النظام الظالم، ومنذ سبعة أعوام تجمعت الملايين في ميدان التحرير، وأسقطت مبارك، لكن القوى الدينية السياسية أشاعت أن «إرادة الله» هي التي أسقطته، وكان هدفهم إجهاض الثورة، واستلاب إرادة الشعب وإعادة العقل الى القوقعة.
< السابق | التالي > |
---|