الصحافة وعاء كما هو الكتاب. لستُ ميّالاً كثيراً للمفاضلة بين الاثنين، خاصة من الزاوية التي تعطي للكتاب مكانة أعلى من الصحيفة ، خاصة حين تأخذنا هذه المفاضلة للعبارة الشهيرة الملأى بشحنة من الازدراء والاستخفاف بالصحافة، حين يوصف ما ينشر فيها بأنه: «كلام جرائد».
ولو تأملنا قليلاً في العبارة لوجدناها تنقل ما ينشر في الصحافة من كونه كتابة وتدويناً، إلى مرتبة الشفاهية، والقيل والقال. فالكلام كما استقرت القاعدة هو غير الكتابة، وبالتالي فالوصف القائل «كلام جرائد» يجعل مما تنشره الصحافة كلاماً، لا كتابة، وهذا ما لا يصح التسليم به، على الأقل بكل السهولة التي نعرفها.
إذا اتفقنا أن الصحافة هي كالكتاب وعاء حامل للخبر أو المعرفة فإن زاوية النظر يجب أن تتسع كي نرى أنه ليس كل ما ينشر في الكتب عميقاً ومفيداً وحاملاً للمعرفة، وليس كل ما ينشر في الصحافة هو مجرد لغو لا يتجاوز كونه كلاماً كالكلام الذي يقال في الشوارع والمجالس.
يمكن للصحافة أن تلعب دوراً تنويرياً ومعرفياً تعجز الآف الكتب عن القيام به، ويمكن للكتب أن تكون وسائل تجهيل وإفقار للمعرفة، وتعميم للخرافة والخزعبلات والأباطيل والترهات. ولست في هذا القول منحازاً لأحدهما: الكتب أو الصحافة، وإن كان لي من انحياز فهو لطبيعة ما يقدمه لنا كلاهما أو أحدهما من معرفة نيّرة، وبالتالي فإن الحكم يجب ألاَّ يكون على الوعاء نفسه، وإنما على ما يحتويه: أهو سم زعاف أم عسل مصفى.
مناسبة هذا الحديث هو كتاب رشيق مفيد ممتع طالعته مؤخراً، هو في بنيته وطريقة كتابه أقرب إلى حرفة الصحافة منه إلى البحث الذي تتصف به الكتب البحثية، ولا أعلم إذا كان كاتبه قد نشر مادته في الصحافة قبل أن يجمعها في كتاب، أو أنه جمع المادة التي بين دفتيه لينشرها على هيئة كتاب دون أن تمر بوعاء الصحافة.
مؤلف الكتاب الذي صدر ضمن سلسلة «كتاب الهلال» الشهيرة، كاتب من مصر هو خيري حسن، وعنوانه: «أبي كما لم يعرفه أحد». والحديث لا يدور عن ذكريات الكاتب عن والده كما قد يوحي لنا به العنوان، وإنما هو عبارة عن سلسلة مقابلات، يمكن وصفها بالصحفية، أجراها الكاتب مع أبناء وبنات عدد من أبرز كتاب وفناني مصر الراحلين، بينهم مثلاً: عبد الرحمن الأبنودي، وعماد حمدي، ومحمود شكوكو، ويحيى حقي، ومرسي جميل عزيز، وأحمد فؤاد نجم.
الفكرة جميلة وغير مسبوقة في حدود ما أعلم لذا يطوف بنا الكتاب في صفحات لا نعرفها، أو لا نعرفها بالتفصيل، عن حيوات هؤلاء الراحلين، مروية على لسان الأقرب إليهم: أبنائهم أو بناتهم، رغم أن زينب ابنة أحمد فؤاد نجم، سألت والدها مرة: «بابا، هو ليه الناس بتعرف عنك كل حاجة؟»، فرد عليها: «طيب، وهو أنا إيه من غير الناس».
madanbahrain@gmail.com
< السابق | التالي > |
---|